ها هُنا نوفر لأبنائنا الطلبة والطالبات أحد أجمل وأكمَل المقالات، التي هي بالفِعل موضوع تعبير عن عيد الشرطة؛ مشتملا على العناصر والتوثيقات اللازمة. وفي الخاتمة معنا نشيد جميل، كخير خِتام.
حين يتحدى الرجال الصعاب
الأعزة يبذلون في سبيل الواجب أرواحاً، والبواسل تُدق أعناقهم بالسيوف ولا تُحنى خوفاً، ومَن للملاحم غير أهلها؟! وهل يُعرف الرجال إلا وقت الشدائد؟! إن رجال الشرطة المصرية – نظاميون كانوا أم مجندون – قد سطروا في تاريخ الأمة صفحةً لَهِيَ الأنصع بياضاً والأكثر عِزةً وشرفاً، فمن أَوْلاهم بالعيد بهجةً وافتخاراً؟! ومن أشرف منهم تخليداً وذكرى؟! فقد قال العرب قديماً أن الرجال يُعرفون بالحق، وهم في الحق رجالاً، وفي دفع الباطل أبطالاً.
من هنا جُعل لهم عيداً؛ يتذكرون فيه مجد الأسلاف، ويتعلمون من مآثرهم المكارم، ويأخذون من حكاياهم قوةً مُعينة على إكمال المَسير على هُدى أصحاب العهد رافعي رايات الإباء، جُعل عيد الشرطة المصرية في يوم الخامس والعشرين من يناير، تخليداً لمن رحلوا دفاعاً عن كرامتنا، وتيمناً بذكرى عطرة لرجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتحديد ذلك التاريخ لم يكن اعتباطاً أو اختلاقاً، بل جاء لأنه يوم شهد تضحيات فذَّة في وجه غاشم محتل، وفي الإسماعيلية كانت البداية.
اقرأ أيضاً: بحث عن ثورة 25 يناير
الإسماعيلية تشهد بأن مصر تستطيع
كانت مدينة الإسماعيلية ببشرها وحجرها شاهدة على أنبل ملاحم التاريخ المصري الحديث، حيث الصمود والتحدي، فحين شقشق فجر يوم الجمعة الموافق 25 يناير لعام 1952 ميلادي، سطعت معه أنوار قصة كفاح جديدة أبطالها من رجال الشرطة المصرية ضد المحتل البريطاني الغاشم الطابق على صدور العباد.
بدأت القصة حين تصاعدت حدة التوتر سياسياً وعسكرياً بين الدولة المصرية من جهة وبين الإحتلال البريطاني من جهة أخرى، وكان ذلك لسببين رئيسيين، الأول توهج واشتداد الأعمال الفدائية ضد معسكرات الجيش البريطاني بجنوده وضباطه في منطقة مدن القناة، وهو ما كبدهم الخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات، أما السبب الثاني فهو انسحاب العمال المصريين من العمل في المعسكرات الإنجليزية مساهمةً في منهم في الكفاح ضد المحتل الأثيم، مما أحرج القوات البريطانية وأوقعها في حيصٍ وبَيصٍ.
وتزامناً مع تلك الأحداث الدائرة بمنطقة القناة قامت الحكومة المصرية بالإعلان عن فتح باب التسجيل للعمل في معسكرات الجيش المصري، واستغل ذلك الإعلان العمال المنقطعين عن العمل في معسكرات الإحتلال البريطاني، ليقوم بالتسجيل للعمل ما يقارب الـ 91572 عاملاً في فترة زمنية وجيزة زادت عن الشهر بقليل، حيث بدأت في تاريخ 16 أكتوبر 1951م واستمرت حتى 30 من نوفمبر 1951م، مما عدَّه الإنجليز صفعة على قفاهم من عمال مصر الوطنيين.
ثم تلقى المحتل صفعة أشد وطأةً على القفا من نظيرتها الأولى، وذلك حين توقف موردي مستلزمات الإعاشة الضرورية من الخضراوات والفاكهة واللحوم وغيرها من أصناف المستلزمات الأخرى عن إكمال عقود التوريد والمد بالكميات المحددة بصورة مفاجئة وغير متوقعة، وهو ما وضع ما يزيد عن ثمانين ألف جندي وضابط بريطاني يعيشون في مدن القناة تحت وطأة الخوف من الجوع والعطش والعلاج.
رعونة المحتل قابلتها شجاعة الشرطة المصرية بصلابة
تحت وطأة العِوَز والحاجة لأبسط الاحتياجات المعيشية، ومع لهيب الصفعات المصرية الذي أحرق صدور وعقول الإنجليز قبل أقفيتهم ومؤخراتهم؛ أقدموا على مغامرة رَعْناء لم تُحسب عواقبها، ففي محاولة منهم لرد الصاع للمصريين وإهانتهم قرروا استفزاز وإهانة الحكومة المصرية، متوقعين منها رضوخها وقبولها بما سيُملى عليها، بدءًا من التراجع عن إلغاء معاهدة عام 1936م، وصولاً إلى دفع العمال والموردين إلى استكمال العمل في معسكرات الإنجليز، مروراً بوضع حد للعمليات الفدائية.
وصبيحة يوم الجمعة 25 يناير 1952م، وتحديداً في الساعة السادسة صباحاً استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة “السير/ البريجادير أكسهام” ضابط الإتصال المصري “المقدم/ شريف العبد”؛ ليسلمه إنذاراً حاد اللهجة لتسليمه إلى “اللواء/ أحمد رائف” قائد بلوكات النظام و”المهندس/ علي حلمي” وكيل المحافظة، وجاء في ذلك الإنذار أمر صريح بتسليم أسلحة قوات الشرطة للقوات البريطانية، وإخلاء مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات القوات البوليسية تماماً، على أن ترحل هذه القوات الشُرَطيَّة عن منطقة القناة بأكملها في نفس اليوم إلى مدينة القاهرة بدعوى أنها تساعد في إخفاء الفدائيين المصريين وتمدهم بالمؤن والسلاح.
ولم يتأخر رد قوات الشرطة المصرية، حيث رفضت قوة البوليس المكلفة بحماية مدينة الإسماعيلية الإنذار جملةً وتفصيلاً، بل وأعلمت القائد البريطاني صراحةً بأن السبيل الوحيد للدخول إلى مبنى المحافظة ومبنى القسم هو الدهس على أشلاء وجثث الضباط والجنود المصريين، وأُرسلت صورة من هذا الرد العنيف إلى وزير الداخلية المصري حينها “فؤاد سراج الدين باشا”، فما كان منه إلا أن أقر موقف أبناءه من الضباط والجنود، كما حثهم على الصمود والمقاومة وعدم الإستسلام.
عند هذه النقطة استشاط القائد البريطاني غضباً، وأحرقت الإهانة ما يجري في عروقه من دماء، ففقد أعصابه وحنكته وقرر أمر قواته ودباباته وعرباته المصفحة بالتحرك لمحاصرة قسم شرطة الإسماعيلية، وعند وصوله صاح عبر مكبر الصوت مُنذِراً مأمور قسم الشرطة بضرورة تسليم ما يحوذه الجنود والعساكر والضباط من أسلحة، وهدد وتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور، إلا أن كل من في قسم الشرطة وعلى رأسهم المأمور رفض قبول الإنذار وتسليم السلاح رفضاً باتاً لا رجعة فيه.
ههنا زاد غضب القائد البريطاني على ما به من غضب، وكيف لا وهو لم يعد يدري كيف ومتى سيُصفع قفاه؟ فأمر في الساعة السابعة من نفس الصباح (أي بعد ساعة واحدة من تسليم الإنذار الأول، وهو ما يدل على الرفض السريع لقوات الشرطة) قواته بتوجيه دانات دبابات السنتورين (أحدث أنواع الدبابات حينها وأشدها فتكاً) والمدافع من عيار 25 رطل نحو المباني المتجاورة للقسم ومبنى المحافظة والثكنات، وأمر بإطلاق النيران والقنابل بشكل مركز وبشع، واستمر الحال دون توقف لمدة زادت عن الساعة الكاملة، المحتل الغاشم بعتاده الثقيل من ناحية، في مواجهة قوات الشرطة المسلحة بالبنادق اليدوية البسيطة والعتيقة من طراز (لي انفيلد) من ناحية أخرى.
وبعد مرور فترة زمنية ليست بالقليلة تلونت فيها الجدران باللون الأحمر، وجرت فيها دماء المصريين الذكية على الأرض أنهاراً، أمر الجنرال “اكسهام” بوقف الضرب لمدة قصيرة، وصاح مرة أخرى في رجال الشرطة المحاصرين في الداخل؛ ليتلو عليهم إنذاره الأخير بالتسليم والخروج رافعي الأيدي وبدون الأسلحة، وإلا فإن قواته ستستأنف الضرب بكل ما أُوتيت من قوة، فجاءه الرد من ضابط مصري شاب صغير الرتبة والعمر كبير الحماسة والوطنية وهو “النقيب/ مصطفي رفعت”، حيث صرخ في وجهه في شجاعة وثبات: “لن تتسلموا منا إلا جثثاً هامدة”، فعلى أثر هذه الصفعة المدوية – وما أكثر الصفعات في تلك الملحمة – صاح القائد البريطاني غضباً أن ابدأوا الضرب بلا رحمة، وقد كان.
ثم استمر تدفق القوات البريطانية والتعزيزات العسكرية نحو القسم، وقُبيل غروب الشمس كان قد حاصر مبنى قسم الشرطة الصغير ومبنى محافظة الإسماعيلية ما يزيد عن السبعة آلاف جندي بريطاني مزودين بالأسلحة، ومُدعمين بالدبابات والعربات المصفحة والمدافع الثقيلة، في حين أن إجمالي عدد الجنود والضباط المصريين المحاصرين في القسم لم يتجاوز الثمانمائة بعد أن انضم إليهم رفقاءهم من الثكنات، وكان معظمهم أعزل لا يحمل سلاحاً، ولم يتجاوز عدد المحاصرين في مبنى المحافظة الثمانين جندي وضابط.
وظلت المعركة حامية الوطيس، حيث استخدم البريطانيون كل ما معهم من أسلحة في قصف مبنى المحافظة وقسم الشرطة، وبالرغم من ذلك قاوم رجال الشرطة المصرية ببسالة، ولم يهنوا ولم يحزنوا، كما أنهم لم يفقدوا إيمانهم بشرف ما يقومون به من واجب رغم انحشارهم في معركة غير متساوية القوة عدداً وعتاداً، وإن قرروا التسليم حينها لم يكن ليزدريهم أحد، ففي النهاية لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها، إلا أن روحهم الطيبة وشعورهم بالمسئولية الوطنية دفعتهم لأن يستمروا.
وهكذا استمرت الملحمة بين وقع قنبلة ثقيلة على المباني بمن فيها من هنا، وبين صوت حييَّ لبندقية خشبية يدوية بسيطة من هناك، وبين زمجرة مدفع يدفعه رهطٌ من أُولِي العصبة من الرجال الأشداء من هنا، وبين فرقعة بندقية تشحيم تشبه فرقعات بارود العيد المحبب للأطفال، وهكذا مرت الساعات سجالاً حتى نفدت آخر طلقة في جعبة رجال الشرطة المصرية.
فعندها فقط انحسرت وتوقفت المجزرة البريطانية البشعة، إلا أنه في سبيل بلوغ تلك المرحلة كانت قد زهقت روح خمسين قتيلاً من أشرف الرجال، ومن أشجع الرجال، علاوةً على إصابة ثمانون جريحاً آخرين، بينما سقط من الضباط البريطانيين 13 قتيلاً و 12 جريحاً فقط، علماً بأن من بقي من المصريين على قيد الحياة تم أسره من قِبل البريطانيون، وعلى رأسهم القائد المصري الهُمام اللواء/ أحمد رائف، ولم يُفرج عنهم جميعاً إلا بعد شهر كامل من الأسر.
ولم تتوقف فظاعات البريطانيين عند ذلك الحد، بل أمر قائدهم المتعجرف بتدمير بعض القرى المحيطة بالإسماعيلية بحجة أنها مراكز لإختباء الفدائيين المصريين المكافحين ضد قواته، وهو ما تبعه قتل وجرح أعداداً أخرى من المدنيين المسالمين.
أصدق الشهادات في حقك هي شهادة عدوك
حقيقةً أجمعت المراجع التاريخية الباحثة في أحداث وتفاصيل هذه الملحمة البطولية المشرفة على أن الجنرال “اكسهام” لم يستطع أن يخفي إعجابه بشجاعة المصريين، فقال للمقدم/ شريف العبد (ضابط الإتصال الذي استلم الإنذار الأول): “لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف، واستسلموا بشرف، ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعاً ضباطاً وجنوداً”، ثم أمر جنود فصيلة بريطانية كاملة بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم أمامهم، وذلك تكريماً لهم وتقديراً لشجاعتهم.
مصر كلها رجال
ما إن انتشرت أخبار المجزرة البريطانية بحق رجال الشرطة المصرية والمدنيين في ربوع مصر حتى استقبلها المصريون بالغضب والسخط والحنق، فخرجت المظاهرات العارمة بكل شوارع وميادين المدن المصرية، وأولها العاصمة القاهرة، وتلاحم جنود الشرطة مع طلاب الجامعات وفئات الشعب العاملة في مظاهرات غاضبة متتالية، استمرت منذ صباح اليوم التالي للمجزرة 26 من يناير إلى ما شاء الله لها أن تكون، ونادت الجموع الغاضبة بحمل السلاح وقتال الإنجليز انتقاماً لذويهم من أبطال الشرطة المصرية.
من الأمم من كتبت تاريخها بدماء أبنائها المخلصين، لذلك لا جَرَم في نعتها بأشجع الأمم وأكثرها عِزاً وكرامة، ومصر واحدة من تلك الأمم الأبية، والشرطة المصرية هي فرعٌ في السماء من جذعٍ طيب أصله ثابت. هنيئاً لمصر شرطتها، وهنيئاً لرجال الشرطة المصرية أسلافهم الشجعان.
نسيد جميل في عيد الشرطة المصرية
أنا مستعد
وقت الندا أكون عشانك درع صد
دايمًا وجاهز اني أواجه أي حد
أنا العزيمة والصمود
أمنك، سلامتك؛ هو هدفي في الوجود
عهد وقسم، أصون بلادي وأهلها
قد التحدي وعمرنا ما بننهزم
عهد وقسم، أصون بلادي وعرضها
رمز الأمان وأكون حماية للوطن
مش أي حد؛ يقدر يمس أمنها… هيلاقي رد
وبكل فخر؛ انا دمي حر وبلدي مصر
قد التحدي سلاحي صاحي
مكتوب عليه من ناحيه مصر وناحيه مصر
شايل العلم؛ قد الندا ويا مصر انا صاين القسم
مصر الأمان واللي يعاديها يتقسم
رفرف وإعلى المولى بالنصر حاميك
أولاد بلادي نار دمار على اللي يعاديك
الله أكبر، الله أكبر
بكل فخر إبن مصر بينتصر
الله أكبر، الله أكبر
أواجه الموت بالعزيمة وكُلي نصر