منذ عامين سافرت مع زميلي محمد شعبان لعمل تحقيق صحفي في قرية زبيدة بمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة بمناسبة مرور 50 عاماً علي تصوير فيلم “أدهم الشرقاوي” ذلك البطل الشعبي الذي صورته الأوبريتات الغنائية بإعتباره “روبن هود” المصري الذي قاوم الظلم والاحتلال وتعرض للخيانة من صديقه بدران.
هناك اكتشفنا المفاجأة وهي أن أدهم عبد الحليم عبد الرحمن الشرقاوي كان ينتمي لأسرة ثرية ويتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة ووالده يمتلك نحو 600 فدان وشقيقه وكيلاً في وزارة العدل وأعمامه كلهم “باشاوات”.. ولكنه كان شقياً وقاتلاً وسارقاً، فالشاب الذي ارتبط اسمه في أذهان المصريين بالبطولة ومحاربة الإنجليز حتى أصبح بطلاً شعبيًا نشرت صحيفة الأهرام خبر مقتله بعنوان “عاقبة البغي؛ مقتل شقي كبير”.
حكايته بدأت في عام 1917 حينما ارتكب حادثة قتل وهو في سن التاسعة عشرة، وكان عمه عبد المجيد بك الشرقاوى عمدة زبيدة أحد شهود الإثبات، وحكمت المحكمة عليه بالسجن 7 سنوات مع الأشغال الشاقة فأرسل إلى ليمان طرة، وفي الليمان ارتكب جريمة قتل أخرى وحُكِم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لكنه هرب من السجن خلال الإنفلات الأمني الذي وقع أثناء ثورة 1919 واختفى في مكان ما في قريته، وهناك انضم إليه عدد كبير من الأشقياء فكون منهم عصابة وأخذ يرتكب الجرائم العديدة من قتل وسطو ونهب، ونجح الجاويش محمد خليل في أن يطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلا ووجدوا معه نحو مائة طلقة وخنجرا، وعندما قابلنا أهله حاولوا تخفيف المسألة بالتأكيد علي أنه كان يميل لمساعدة الغلابة والناس الفقراء، ومر بمواقف كثيرة قد تبدو ضد القانون، ولكن في هذا التوقيت لم يكن هناك قانوناً، كما نفوا تماماً قصة أن صديقه محمود بدران هو من قتله.
وما حدث أن أدهم أرسل أحد رجاله ليشتري طعاما من محل الخواجة “مانولي” بالقرية وكان يجلس بجوار المحل أحد المخبرين فتتبع خطوات الرجل حتى عرف مكانه وقتلته الشرطة.
وقد تذكرت هذه القصة مؤخراً حينما تداول البعض قصة فلاح آخر خلدت سيرته الأغنيات الشعبية وهو “عواد” الذي باع أرضه، وهناك قصص كثيرة مرتبطة بالفلاح “عناني أحمد عواد” أحد أبناء قرية كفور نجم التابعة لمحافظة الشرقية، فقد ظهر اسمه منذ 70 عاماً وارتبط في أذهان المصريين بالموال الشعبي الشهير “عواد باع أرضه” الذي يقول إنه باع أرضه من أجل راقصة.
ولكن هناك قصة أخرى سردها عدد مجلة التحرير الصادر في 9 أكتوبر عام 1958 من خلال حوار مع أهالي كفور نجم عن بلدياتهم “عواد”.. فقد قالوا إن عواد رفض في عام 1946 أن يتنازل عن أرضه للأمير محمد علي -ولي العهد وقتها- وصمد أمام رجال مفتش الدايرة والأمير، وكانت شجاعته ملهمة للفلاحين وأصبح رمزاً لهم ولكل من يرفع صوته بكلمة “لا”، وحتى لا ينتشر التمرد كان لابد من وصمه بالعار.. فقبضوا عليه ورحلوه لمعتقل الطور، وفي غيابه انتهكوا أرضه واستولوا عليها، ولأنه بعد الإفراج عنه اشتكي الأمير والمفتش في المحكمة فلم يجدوا أمامهم سوي أن يقتلوه، وحتى لا يتحول لأسطورة شعبية شوهوا سيرته ليضمنوا عدم ظهور “عواد آخر” وانتشرت الأغنية الكاذبة “عواد باع أرضه يا ولاد.. شوفوا طوله وعرضه يا ولاد“، وللأسف نحن “أساتذة” في تأليف التاريخ.
فمثلاً إذا بحثت على الانترنت باسم “عناني أحمد عواد” ستجد موقعاً ينشر سيرته باعتباره شهيد الفلاحين ضمن الرعيل الأول للحركات الاشتراكية واليسارية في القري المصرية.. وستجد أحد مواقع الإخوان وقد لصق به صفة “رئيس شعبة الإخوان المسلمين في كفور نجم” ويدعون استشهاده في مظاهرة كانت تهاجم الإقطاع وتطالب بتطبيق أحكام الإسلام!
بينما ستجد موقعاً ثالثاً يهاجم الإخوان ويؤكد أن الجماعة الإرهابية كانت تقوم بتحريض بسطاء الفلاحين على الأغنياء.. فرفض الفلاحون ممارسات الجماعة واشتبكوا معهم ونتج عن ذلك مقتل “عواد” أمام نقطة الشرطة القرية ببلطة حديدية في أثناء اصطحاب الأهالي له لتحريرهم محضراً ضده بتهمة “إثارة الفتنة”، وهناك مواقع أخرى كثيرة تؤكد أن عواد كان مجرد رجل يلهث وراء ملذاته وباع أرضه من أجل راقصة كما تقول القصة الشعبية، بالمناسبة.
الحكايات المتناقصة جميعها تناست نقطة مهمة وهي أن “عواد” قام بتأجير 8 فدادين من تفتيش الأمير محمد علي ليقوم بزراعتها.. وبالتالي لم يكن يملك أصلاً أرضاً ليبيعها من أجل راقصة.. أو يستشهد في سبيل ترابها!.
بقلم: وليد فاروق محمد