لله أقوام اختصهم بصناعة الأمجاد، وتغيير ملامح الحياة، يولدون ويعيشون أياما وليال جادين عاملين باذلين ما في وسعهم لنيل المعالي، والوصول الى الثريا، والظفر بالنجاح، والوصول إلى القمة، قمة الصلاح أو قمة الفلاح أو قمة النصر أو قمة الثروة أو قمة السعادة أو قمة التقوى ،المهم أنه ثمة أناس لا يقبلون بما دون القمة أبدا، في دين أو دنيا.
وسنتناول في هذا المقام موضوع علو الهمة، وما تعنيه هذه العبارة، وكيف يشحذ المسلم همته، وإلى ما يوجه طاقته لكي يحقق الفلاح في أمور دنياه وآخرته ويكون من الرابحين في معركة الحياة.
معنى علو الهمة
إن كلمة الهمة مأخوذة من الهم بمعنى العزم على فعل الشيء وتحقيقه، وكلمة همة هي مفرد همم ومهمات والهمم هي الأمور العظيمة والأحداث الجليلة، وقد عرفها ابن القيم –رحمه الله- بأنها تعني منتهى الإرادة بينما الهم يشير إلى أول الإرادة، فالهم هو مجرد النية والرغبة في فعل الشيء أما الهمة فهي الرغبة القوية والإرادة الحقيقية لفعل الشيء والشروع فيه، فالهم هو أول درجات العزم على الشيء بينما الهمة أقصى درجات العزم وأقواها.
وقالو إن الهمة توصف بالعلو والدنو، فيقال همة عليا وهمة دنيا، والهمة العليا هي تلك الإرادة القوية الحاسمة المؤكدة على فعل الشيء وإتيانه، والهمة الدنيا هي رغبة تراود القلب على استحياء، فينقصها القوة والصدق والحزم.
من هو صاحب الهمة العالية؟
هو ذلك الشخص الذي لا يرضى بالدون، ولا يقبل قليل النجاح، لا يغريه أن يكون على هامش اللامعين المتألقين، ولا يقبل أن يوضع اسمه في ذيل قائمة المتميزين.
وفي هذا المعنى يقول المتنبي:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
إلى ما ينبغي أن توجه الهمم وتبذل الطاقات؟
الشخص ذو الهمة العالية ديدنه أن ينشد من كل أمر قمته، وعليائه، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو أمور الدين، ولا غضاضة في ذلك فإن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والمؤمن الغني أحب إلى الله من المؤمن الفقير، والعالم أحب إليه من الجاهل، ومن نشر علمه لينفع الناس بعبادته، ويخدم الدعوة بسلطانه وقوته أحب من العابد الذي يعتكف في مسجده ولا يتعد أثر عبادته نفسه، وحياته.
ولكن علو الهمة الذي نحن بصده هنا هو الهمة في الدين، والتطلع إلى تحصيل الثواب والأجر العظيم، والسعي إلى مزاحمة الأولياء والصديقين والشهداء والصالحين، فكما أننا نتطلع إلى منافسة الأثرياء والمرفهين وذوي السلطة والجاه، فإننا يجب أن تكون همتنا عالية في طاعة الله وأن نتنافس على مرضاة الله ونيل أحسن الجزاء.
حتى في طموحاتنا وأمنياتنا وما ندعوا الله به يجب أن تكون همتنا عالية، وأن نسأل الله مقامات الجنة العالية، وهذا ما أرشدنا إليه الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في قوله: (إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة وسلوا الفردوس الأعلى فإن الله لا يتعاظمه شيء).
الأسباب المعينة على علو الهمة
علو الهمة هو طبع في بعض الناس وسجية فيهم، بينما يفتقده البعض الآخر ويرضون بالقليل من كل شيء، وقد لا يتجاوز سقف طموحاتهم سقف بيوتهم، ولكن قد يفيق الإنسان ويعيد حساباته، يغير طريقة تفكيره، وهنا يجب أن يعرف كيف يستعين على نفسه بالهمة العالية، ويشحذ طاقته ويرتقي بمستوى طموحاته وأهدافه، ومن الأسباب النافعة في ذلك ما يلي:
العلم بأهمية الأهداف التي ينشدها، والتعرف على عظيم فائدتها ونفعها، وإذا ما تعلق الأمر بتحصيل الثواب ونيل المقامات العليا من الجنة أن يقرأ في وصف الجنة والثواب العظيم الذي أعده الله لأهلها، والسعادة التي لا تضاهيها سعادة والتي ينعم بها من رضي الله عنهم ووفقهم في حياتهم وأكرمهم في أخرتهم.
أن يعرف المرء قيمة العمر وقيمة الوقت الذي يمضي، فهو يمضي في كل الأحوال ويتفلت من يد صاحبه، فيجب أن يشترى بوقته وعمره سلعة غالية، وما من شيء أغلى من الجنة ونعيمها وزخرفها.
مصاحبة الصالحين والمجاهدين والحريصين على رضا الله تؤثر إيجابيا في الإنسان، وتحفزه وتدفعه إلى الارتقاء وعلو الهمة.
تذكر الموت وأهوال يم القيامة أمر يكفي لشحذ الطاقات وزيادة الهمم، فالأمر جد خطير والحدث جلل لا يستهان به أبدا، فكلما تكاسل المؤمن عن الطاعة وتخلف عن ركب الصالحين العابدين المسارعين إلى مرضاة الله ورسوله، فليذكر نفسه بهول ما ينتظره من لحظات الحساب والحشر وغيرها ليفيق من غفلته ويصحو من ثباته.
دراسة سير الصحابة والتابعين ومعرفة ما قدموه للدين وما بذلوه في سبيل الدعوة من تضحيات، أمر من شأنه أن يحفز الإنسان ويشجعه ويثير لديه رغبة في الاقتداء بهم واقتفاء أثرهم.