القيام على حقوق الأبناء والوفاء بها على أتم وجه أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يختلف عليه اثنان، وهو أمر موافق للغريزة الفطرية التي ركبها الله في الوالدين وجبلهم عليها، فقد أودع الله في قلوب الأمهات والآباء من الرحمة ما يعينهم ويدفعهم إلى رعاية الأبناء وحمايتهم ودفع أي ضر عنهم والزود عنهم بكل وسيلة، حتى لو اقتضى الأمر التضحية بالنفس في سبيلهم، فهم يفعلون دون تذمر أو شكوى أو مَنٍ.
ولكن اقتضت سنة الله أن يكون لكل قاعدة شواذ، كذلك قواعد الأمومة والأبوة السوية السليمة لا تخلوا من وجود الشواذ ولا تسلم من وجود الاستثناءات، فكما أن هناك أمهات آباء يضحون بكل عزيز لصالح فلذات أكبادهم، فهناك أيضا أنماط من الوالدين يضحون بفلذات أكبادهم لقاء متاع زائل أو رغبات سقيمة.
وهنا سوف نوضح صورا من صور عقوق الآباء لأبنائهم التي تكثر في هذا الزمان، والتي تشير ضمنيا إلى الحقوق التي تفرضها أنماط الحياة العصرية على الآباء تجاه الأبناء، بما يمكنهم من النجاح والوصول إلى بر الأمان، الأمان من قسوة الحياة وأوجاعها وغدراتها والأمان من غضب الله وعذابه يوم الموقف العظيم.
صور من عقوق الآباء للأبناء في هذا العصر
اختلفت ملامح هذا العصر ومتطلباته وانعكس ذلك على صياغة الحقوق والواجبات وبلورتها بما يتواكب مع ملامح الحياة العصرية التي تضاعفت فيها الضغوط واشتدت الفتن وكثرت التحديات، ومن ثم لم يعد العقوق للأبناء ينحصر في عدم اختيار مُوفق للأم أو إطلاق اسم غير مستحب أو حتى التفريط وعدم الحرص على تعليمهم كتاب الله، بل تجاوز العقوق لهم هذه الحدود وتعددت صوره.
من المعروف للجميع زيادة الضغوط المادية وصعوبة توفيرها، مما شغل الآباء والأمهات وجعلهم منصرفين تماما إلى ذلك هذا الجانب من الحياة، فالأب يعمل بعمل واثنين والأم تعمل أيضا، والأبناء يعانون الضياع بين الطرفين، ويواجهون الحياة بسلاح العشوائية والصدفة والوحدة، ويتعاملون مع المواقف الحياتية التي تطرأ لهم بمنطق الارتجال لردود الأفعال غير مستندين إلى خبرة أو معين أو مرشد، أو ليس هذا دربا من دروب العقوق.؟
الخلافات الزوجية التي ترقى إلى حد الشقاق، وحرص كل من الطرفين على تحقيق رغباته وأهدافه ولو على حساب الآخرين، وأنانية كل من الاثنين في البحث عن حلول مرضية له وحده، وغض الطرف تماما عن العوامل الأخرى، التناحر بين الزوجين والتقاذف والتراشق بالتهم والشتائم وغيره من المشاهد التي يطلع عليها الأطفال منذ نعومة أظفارهم، الوقوف في مواجهة الشريك في المحاكم واللجوء إلى دوامات القضايا وما فيها من مظاهر الجفاء والقسوة وسوء الخلق، أليس هذا دربا من العقوق؟
إقحام الأبناء في قصص الطلاق وتبعاته، واستغلالهم كوسائل للضغط بين الطرفين، وتشويه صور الولدين في عيون الأبناء بدافع الانتقام، أليس هذا صورة من صور العقوق؟
حرمان الأبناء من أحد الوالدين بلا أدنى ذنب، كناتج من نواتج الانفصال وعدم مراعاة هذا الاعتبار عند اتخاذ قرار إنهاء الحياة الزوجية، أليس يعد عقوقا للأبناء؟
الاهتمام بإشباع الاحتياجات المادية من المأكل والملبس والمسكن على حساب بقية الاحتياجات النفسية والتربوية للأبناء، أليس هذا من صور العقوق لهم؟
التصرف بما لا يرضي الله، وترك فرائضه والبعد عن منهجه من الأب والأم، وإغفال أهمية الالتزام بالقدوة الحسنة أمام الأبناء، تعليمهم اللغات والمهارات التكنولوجية الحديثة، والغفلة عن تعليمهم أحكام الشريعة وتسليحهم بالكتاب والسنة، هو عين العقوق لهم.
أن يكمل الزوجين حياتهما الزوجية الفاشلة بكل اخطائها وخطاياها، أن يعلنا حالة الحرب والعداء تحت سقف بيت واحد، أن ينشأ الأبناء شاهدين على تفاصيل علاقة مؤسفة، محاكين لنمط سقيم من أنماط الحياة، يورثهم العقد النفسية والعلل السلوكية التي يشق علاجها، ويصعب على المجتمع فيما بعد تحملها، والتي تخلق أشخاصا مذبذبين ضعفاء، لا يمتلكون القدرة على إدارة حياتهم أو الاختيار الموفق لقراراتهم، ألا يعتبر عقوقا للأبناء؟
وأخيرا أقول إن عقوق الابناء يشمل كل تقصير أو إفراط او تفريط في حقوقهم، من شأنه أن يرديهم في هاوية الفشل في الدنيا أو في الأخرة، فاتقوا الله في ما وهبكم الله من نعمة، وسددا وقاربوا!