اختلفت ملامح عصرنا عن العصور المنصرمة، اختلفت مظاهر السعادة فيه، وتغيرت معايير الحكم على الأشخاص، واختلط الخير بالشر، والأغرب أن الفطرة تبدلت ونوع المعاصي والذنوب تغيرت، فما كنا نعده من النوادر والاستثناءات صار ظاهرة وربما سمة من سمات بعض الفئات.
ونحن في هذا المقام سوف نوجه الحديث والأنظار إلى ذنب عظيم وخطر جسيم يهدد المجتمع بأسره، ذنب من تلك الذنوب التي كانت في العهد الماضي ضمن الذنوب النادرة الحدوث، والذي تتجسد فيه كل معاني الشر والسوء، ألا وهو عقوق الآباء للأبناء, وسوف يدور الحديث عن عظمة ذلك الذنب وكيف حرمه الإسلام وعن أثاره الكبيرة في إيجاد أجيال مشوهة، عاقة، غير سوية نفسيا ولا خلقيا.
حث الإسلام على الإحسان للأبناء والوفاء بحقوقهم
الإسلام يقدس الكيان الأسري بكل المعاني، ومن ثم وضع قواعد وأصول وضوابط للتعامل بين الوالدين والأبناء، وأخرى تحكم التعامل بين الزوجين، وغيرها تحدد العلاقة بين الأخوة، ووضع خطوطا واضحة تبين حقوق الآباء على الأبناء وتعززها وتدع إليها، وحقوق الأبناء على الآباء، في تكامل يوفي كل طرف حقوقه ويعرفه بالتزاماته تجاه الآخر.
وقد نصت المراجع الشرعية، سواء الكتاب أو السنة النبوية المطهرة على تلك الحقوق وبينتها، منها التأكيد على مسئولية الآباء وبيان أهمية تحملها والالتزام بها على الوجه الأكمل الذي يحمي الأبناء ويمنحهم أفضل مستوى من التعليم والتربية السوية القويمة، وتوطينهم على الالتزام بأوامر الشرع والابتعاد عن نواهيه، وغرس الوازع الديني في نفوسهم منذ الصغر، وتعليمهم قيم المراقبة لله في أقوالهم وأفعالهم وخلواتهم، حتي يقي الآباء أبنائهم وفلذات أكبادهم من أن يلحقهم غضب الله أو يمسهم عذابه، ويعتبر هذا الحق هو الحق الأهم الأسمى للأبناء على الآباء، فالمرء قد يصبر على حرمان الدنيا وكبدها ولكن أنى له الصبر على عذاب الآخرة ونارها، وفي هذا المعنى نزل قول الله عز وجل مبينا وآمرا لكل أب وام ان يضعوا هذا الامر نصب اعينهم هم يتقلبون بين مراحل التربية المختلفة للأبناء والبنات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)،[٣].
وكذلك تلفت السنة النبوية الأنظار إلى عظم الأمانة التي يحملها كل مسئول أو راع تجاه رعيته وعلى رأس هذه المسئوليات وأعظمها على الإطلاق مسئولية الآباء تجاه أبنائهم ورعايتهم لهم، فهم سيسألون عن تربيتهم وتقيمهم وإصلاح ضمائرهم وقلوبهم، فيقول –صلى الله عليه وسلم- (كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، فالإمامُ راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرجلُ راعٍ في أهلِه، وهو مسؤولٌ عن رعيّتِه، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجِها، وهي مسؤولةٌ عن رعيَّتِها، ……. إلى آخر الحديث) وفيه بيان لحجم الأمانة الملقاة على عاتق الوالدين.
حقوق الأبناء
إن الإسلام أمر بمراعاة حقوق الأبناء حتى من قبل أن يولدوا بل منذ مرحلة التفكير في الزواج، ومن ذلك الحض على اختيار الأم الصالحة ذات الدين والخلق، وتوصية الإسلام باختيار اسما حسنا للطفل بعد ولادته، وهذا دليل على أن الشريعة الغراء تهتم بالجانب النفسي للطفل وتحرص على توفير العوامل التي تجعله في أفضل حالاته.
وقد حملت لنا السنة النبوية أثارا وقصصا غاية في العمق والقوة في توضيح تلك المعاني، نذكر منها القصة الشهيرة التي تحوي حديث سيدنا عمر بن الخطاب حين جاءه أحد الآباء شاكيا عقوق ابنه، فما كان من عمر –رضي الله عنه وأرضاه- إلا أن زجر الابن وراح يذكره بوجوب البر بالأبوين وفضله، غير أن الابن أراد أن يبين موقفه، فأوضح قائلا: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوقا على أبيه؟ فأجابه الفاروق: بلى. فأردف الابن سائلا: ماهي؟ فأجابه الفاروق قائلا: أن ينتقي أمه، ويحسن اختيار اسمه، ويعلمه الكتاب. فقال الولد: فإن أبي لم يفعل من ذلك شيئا، أما أمي فزنجية كانت لمجوسي، وأسماني “جعلا” –والجعل الخنفساء- ولم يعلمني من الكتاب حرفا، فالتفت عمر –رضي الله عنه- للرجل وقال له مؤنبا: جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يُسيء إليه.
وتعتبر هذه الكلمات بمثابة دستورا تربويا لحقوق الأبناء على آبائهم، فهنيئا لمن اتقى الله فيهم وأحسن إليهم ووقاهم شر الحياة والممات بفضل تعليمهم كتاب الله وسنة نبيه وغرس الصلاح وحب الخير فيهم.