إنه عذاب القبر؛ نعم، ذلك المُصطَلح المُرعِب الذي يدُب قلوب كُل مسلم، ليس المخطئ والعاصي فقط؛ بل والمُحسن والسابق بالخيرات أيضًا. الكُل يرجوا رحمة ربة ويتمنَّى المغفرة لكل ميت في قبره الآن والرحمة لنفسه عندما يواريه التراب.
فإن مقالنا عن موضوع ليس من موضوعات الحياة الدنيا، وقضية ليست من ضمن قضاياها، بل عن أول منازل الآخرة (القبر)، وحال العباد في القبور، وتحديدا عذاب القبر وموجباته وسبل النجاة منه. سائلين الله من فضله أن ينفعنا بما نكتب وينفع به كل من تقع عليه عيناه، وأن يجعل كل ذلك حجة لنا لا علينا، فهو ولي ذلك والقادر عليه.
قبس أدلة عذاب القبر من الكتاب والسنة
أخبرنا رب العزة في كتابه الكريم عن عذاب القبر، في مواضع متعددة، منها حكاية القرآن عن قوم فرعون وما يلقونه من العذاب في قبورهم إذ يقول عز وجل: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾، فقد ذكر القرآن هنا أنهم يعرضون على النار ويوم القيامة سيدخلون اشد العذاب، وهذا يعني أن عرضهم على النار في وقت غير يوم القيامة ويفهم منه أن هذا ما يحدث في القبر.
ومنه قول الله عز جل عن المنافقين: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾، فالعذاب يحدث لهم ثلاث مرات مرة في الدنيا ومرة في القبر والمرة الأعظم والأشد في الآخرة.
ومن السنة النبوية المطهرة ما روي َعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- أنه قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا بِأَقْبُرٍ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، فَقَالَ: “مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟” فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: “فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟” قَالَ: مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ، فَقَالَ: “إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ” ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: “تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ” قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: “تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ” قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)، وكذلك قول النبي –صلى الله عليه سلم-: ( عذاب القبر حق)، وغيره كثيرا من الأحاديث.
موجبات عذاب القبر
موجبات عذاب القبر كثيرة وقد أخبرتنا عنها السنة النبوية المطهرة ومنها على سبيل المثال وليس الحصر ما يلي:
النميمة وترك الاستبراء من البول : وقد عرفنا ذلك من حديث بن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: “إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ” ثُمَّ قَالَ: (بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ” قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطِبًا، فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: “لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا).
الغلول
هو أخذ شيء بلا وجه حق ومن ذلك حديث النبي عن قتيل غزوة خيبر والذي صنفوه اخوانه شهيدا، فقال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِرَاكٌ -أَوْ شِرَاكَانِ- مِنْ نَارٍ).
الكذب والزنا والنوم عن صلاة الفجر وأكل الربا
وقد جاء تفصيل ذلك في حديث مرعب يصف ما جاء في رؤيا النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنه رأى قوما يعذبون فسأل عنهم فقيل له: (“أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا”).
فيا الله أجرنا من عذاب القبر ونجنا من موجباته.