جلس الجد “عرفان” أمام الدار على مقعده الخشبي بعد صلاة العصر، وتحلّق حوله حفيداه، حسام ومرام، وكان الجد قد اتفق معهما على اللقاء كل يوم في الإجازة الصيفية للحديث حول طائر أو كائن جاء ذكره في القرآن الكريم وبعد نقاش طويل اتفقوا على الحديث عن الهدهد.
أحضر الجد عرفان كيسًا من البذور والحبوب، وطلب من حسام إحضار إناء حتى يضع فيه تلك الحبوب والبذور، وما إن وضع الإناء في الشرفة حتى تجمعت العصافير تأكل منه، وفرحوا جميعًا بالمشهد الجميل، وقامت مرام وأحضرت إناء به ماء كي تشرب منه العصافير، وفجأة حط الهدهد بتاجه الجميل، أخذ الجد يتأمله وقال: سبحان الله إن منظره بديع.
تعجب حسام وقال: ولكن حجمه صغير، أصغر مما كنت أتخيل!
أحبت مرام أن تمسك الهدهد، وما إن حركت يدها حتى طار إلى غصن شجرة، وأخذ يهدهد بصوته العذب، وكأنه يقول لمرام: كيف تتصورين أنك يمكنك القبض على حكيم الطيور؟!
الهدهد صديق الفلاح
ابتسم الجد قائلا: كما رأيتم فالهدهد طائر له عرف مميز على رأسه كأنه تاج لونه بني فاتح، وعرفه البني مرقط من أطرافه بالريش الأسود، ونصفه الأسفل أسود مرقط بالريش الأبيض في نظم جميل، وله طريقة مميزة في الطيران. أكمل حسام الحديث قائلا: يتغذى الهدهد على الحشرات، وهو من أصدقاء الفلاح، فهو ينظف الأرض من الديدان واليرقات والآفات، ويعيش في مناطق كثيرة من العالم؛ لأنه دائم التنقل والترحال من مكان لآخر بحثًا عن الغذاء.
صوت الهدهد
صاح حسام في تحد ولكن من منكم يعرف بماذا يسمى صوت الهدهد؟
أجابت مرام بسرعة: يُسمى هدهدة، وقد جمعت عنه عدة معلومات منها: أن العرب يستبشرون به، ويضربون به المثل في قوة الإبصار، ويطلقون عليه عدة كنى، منها: “أبو “الأخبار” و”أبو ثمامة”، وقد حرم رسول الله (ﷺ) قتله. عاد حسام للصياح سائلا: ولكن هل تعرفين جمع كلمة هدهد؟
ردت مرام جمع هدهد: هَدَاهِد وَهَدَاهِيدُ.
عش الهدهد
رفع حسام يده وقبل أن يتكلم، قالت مرام اتركني أتكلم يا حسام؛ فقد بذلت مجهودًا كبيرا في البحث عن معلومات حول طائرنا.
وهنا أشار لها الجد بالحديث، فقالت: على عكس بقية الطيور لا يبني الهدهد عُشه من الأعشاب وأوراق الأشجار بل يحفر داخل الشجرة، ويصنع تجويفا، ويتخذ منه عُشَّا، كما يتميز بسرعته الفائقة في الطيران؛ حيث تبلغ سرعته (40) كيلو متر في الساعة، وقد يطير عند هجرته مسافات تصل إلى 8000 كيلو متر فسبحان الله ردد الجد مع الحفيدين: فعلا، سبحان الله!
سر الهدهد
سألت مرام ولكن هل تعرف يا حسام سر الهدهد؟
أجاب حسام يستطيع الهدهد الكشف عن مواضع الماء في باطن الأرض بسهولة، فإذا رفرف الهدهد بجناحيه على موضع دلّ ذلك على وجود الماء به، وكان سيدنا سليمان (عليه السلام) يطلب من الهدهد أن يعثر على الماء في باطن الأرض، وإذا وجد المكان وحط عليه، أمر سيدنا سليمان (عليه السلام) بحفر الأرض واستخراج الماء.
نظر حسام إلى جده وسأله: ولكن لماذا اتخذته الطيور حكيماً لها، وهو ليس بأقواها أو أكبرها حجمًا؟
الهدهد.. حكيم الطيور
حينها نظر الجد إلى غصن الشجرة فوجد الهدهد ما زال واقفا، كأنه يستمع لحديثهم عنه، فقال الجد: انظر له يا حسام كيف يقف على غصن الشجرة ؟! إنه على صغر حجمه يبدو ذكيًا، فهو رمز البصيرة، ورسول الأنبياء، ومؤدي المهام الصعبة.
وهنا استطرد حسام في الحديث كما أنه يعرف اتجاهات البوصلة، ويستطيع معرفة الأماكن وتحديدها أكثر من الحمام الزاجل، كما يُعرف عنه قدرته على المراوغة في الجو، وربما فاق النسر في ذلك، وكذلك قدرته على معرفة مواقع النجوم.
ضحكت مرام قائلة: لو التحق بمدرسة الطيور سيكون من الأوائل.
وفي موضوع آخر تقرأ: ما الحوار الذي دار بين الهدهد وسيدنا سليمان؟
هدهد سليمان
أصدر الهدهد هدهدة صغيرة فانتبه له الجد وقال: أعرف أنك تذكرني بأهم موقف تعرضت له في حياتك.
تساءل الحفيدان في شغف: وما هذا الموقف يا جدنا؟
قال الجد عرفان ورد ذكر الهدهد في القرآن الكريم، إذ يقول الله (عليه السلام) في كتابه العزيز: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينِ﴾.
ثم أكمل الجد: ولهذا الحديث قصة ذكرها القرآن الكريم بالتفصيل لما فيها من عبرة وعظة، فهل تريدان سماعها ؟ أقبل الحفيدان على جدهما مهللين، وكذلك نزل الهدهد من فوق الغصن البعيد، وكأنه يريد سماع حكاية جده الهدهد الكبير.
فحكى الجد قائلا: كان سيدنا سليمان (عليه السلام) نبيا آتاه الله من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، سخر الله ﷻ له الريح تجري بأمره، والجن يعملون في البناء والحرث، وكان له جيش عظيم يضم الإنس والجن والوحوش المفترسة والطير، وكان للهدهد الصغير مكانة رفيعة في جيش سليمان الحكيم (عليه السلام).
وفي يوم من الأيام تفقد سيدنا سليمان (عليه السلام) الطير ولم يجد الهدهد، وعلى الفور توعد سيدنا سليمان (عليه السلام) الهدهد بالعذاب، أو الذبح، أو أن يأتيه الهدهد بخبر عظيم، وبعدها جاء الهدهد وعلم بوعيد نبي الله سليمان (عليه السلام) له، ولكن كان معه عذره، وكان لغيابه سبب مقنع، وقدم الهدهد عذره لنبي الله سليمان (عليه السلام) بأنه وجد امرأة تقود مملكة كبيرة بأرض يقال لها: سبأ، وهذه المرأة تملك من متاع الدنيا وزينتها الكثير، ولها عرش عظيم مرصع بالجواهر واللآلئ الثمينة داخل قصر عظيم، وأنها وقومها يعبدون الشمس، ويسجدون لها من دون الله تعالى، وعندما علم سيدنا سليمان (عليه السلام) بالخبر، قال للهدهد سوف ننظر فيما تقول، ونتأكد إن كنت من الصادقين أم من الكاذبين، قال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَا بِنَبَإٍ يَقِينِ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشُ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
ثم كتب سيدنا سليمان (عليه السلام) رسالة ليحملها الهدهد إلى بلقيس ملكة سبأ، يدعوها إلى الإيمان بالله تعالى، وطلب من الهدهد أن يلقي الرسالة في القصر دون أن يشعر به أحد، ثم ينتظر ليرى ماذا تفعل هي وقومها، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾.
وعندما رأت الملكة بلقيس الرسالة ونظرت فيها جمعت حاشيتها وأطلعتهم عليها ثم طلبت منهم أن يشيروا عليها ويرشدوها ماذا تفعل؟ قال تعالى على لسان ملكة سبأ: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾، عندها قررت أن ترسل إليه بهدية، وفي ضوء ما يرجع به المرسلون سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا، قال تعالى مصورًا لهذا المشهد: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾.
لكن نبي الله سليمان (عليه السلام) لم يقبل هداياهم وردها، وأخبر رسول الملكة بأن الله ﷻ قد آتاه ملكا عظيمًا ونبوةً كريمةً، وأن لديه ما هو أفضل من هداياهم، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةٌ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
وعلمت ملكة سبأ بلقيس بذلك، فقررت الذهاب إلى سيدنا سليمان (عليه السلام) ومعها أشراف قومها وكبراؤهم لتستمع إليه، وعلم نبي الله بقدومها، فسأل جنوده من الإنس والجن عمن يستطيع أن يُحضر له عرشها قبل أن تصل هي وقومها إليه، قال تعالى على لسان سيدنا سليمان: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، فقال عفريت من الجن أنا أستطيع إحضار عرشها قبل أن تنتهي من مجلسك – وكان يجلس من الفجر إلى الظهر – وأنا قادر على حمله وأمين على جواهره، لكن شخصًا آخر يطلق عليه القرآن الكريم: الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ قال لسيدنا سليمان (عليه السلام): أنا أستطيع إحضار العرش في لمح البصر، قال تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ * وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.
انبهرت بلقيس بما شاهدته من ملك نبي الله سليمان (عليه السلام) وما مكنه الله فيه من أسباب القوة، مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه في الصناعات والفنون والعلوم، فعندما دخلت القصر رأت الماء يجري من تحت الزجاج الشفاف فظنت أن أرض القصر مغمورة بالمياه، فشمرت عن ملابسها حتى لا تبتل، ولكن عندما عرفت الحقيقة شعرت بضعف ملكها أمام ملك سيدنا سليمان (علا السلام)، وأدركت بلقيس أنها أمام نبي من أنبياء الله الكرام، فأسلمت وآمنت بالله ﷻ، وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست إلا مخلوقًا خلقه الله تعالى وسخره لعباده، وقد أحسنت بلقيس حين أسرعت لاتباع الحق عندما عُرض عليها ولم تتأخر، قال تعالى على لسانها: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
تعجبت مرام و حسام وقالا: سبحان الله!
نظر الجد إلى حفيديه، ورأى عيونهما تلمع بالمعرفة والعبرة، فقال: أنا فخور بكما، ولكن هل تذكران اتفاقنا؟
ضحكا وقالا في مرح: طبعا يا جدنا. قال الجد: إذن نلتقي غدًا في الموعد نفسه لنتحدث عن الغراب