إن المجتمع، أي مجتمع، اللبنة الأساسية فيه هو المواطن، فالمواطن هو الذي يملك بعقله وحواسه المهارات الضرورية، لإقامة مجتمع متحضر، وتسخير كل موارد المجتمع بحكمة وذكاء حتى يصير المجتمع أفضل.
فلولا الإنسان ما وصلنا إلى ما وصلنا إليه في هذا الزمان من التطور، بغض النظر عن فائدتها أو ضررها، لكن الإنسان بعقله الذي ميزه الله على سائر المخلوقات به، استطاع أن يسخر موارد الطبيعة، وغيرها من الموارد حتى يصل إلى التطور الحالي في المجتمع، فبفضل الإنسان، أصبحنا نتواصل عن بعد عن طريق مواقع قائمة على البرمجة، وغيرها، وما برع فيها سوى الإنسان.
وعن طريق الإنسان، أصبحنا نستغل الأراضي الزراعية حتى ننتج محاصيل كل موسم، وينتعش اقتصاد المجتمع، وعن طريق الإنسان، أصبحت الصناعة لا تقتصر على بضع أدوات يؤمن بها الإنسان معيشته اليومية، بل تطورت إلى أكثر من ذلك، فرأينا المباني، وما تتألف منها، ورأينا الأسلحة، ورأينا الوسائل التي تساعدنا في الحياة، كالسيارات، والطائرات، والكباري، ومترو الأنفاق، ووسائل تطوير الري الزراعي.
كل ذلك من فعل الإنسان وحسن استغلاله الموارد المتاحة له في بيئته، وهكذا فإن الإنسان في مجتمع ما، يطلق عليه مواطنًا، لأنه استطاع أن يعمر الأرض الذي يقطنها، ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، سواء بالمال، أو بالعلم، أو بالسلاح ضد المغتصبين والأعداء.
نظرًا لذلك، إذا أردنا أن نضع تعريفًا واضحًا، يتشمل على معنى المواطن وخصائصه، فإني أقول: أن المواطن هو الإنسان الذي يقطن بيئة معينة، غنية بالموارد الطبيعية، فيسخرها لمعيشته، ويجعلها مهدًا لحضارته.
والآن، وقد حاولت إيجاز دور المواطن وأهميته في بناء المجتمع ورقية، وكذا ما يمكن أن يفعله المواطن ليهدم مجتمعه ويصل به إلى مراكز الانحدار، فإني أحاول أن أفرد القول حول ما يجب علينا فعله لبناء مواطن سليم العقل من كل النواحي: العقلية، والأخلاقية، والدينية، حتى يصير ولاؤه لوطنه، ولا يكون سبب في انحدار مجتمعه.
و أحاول أن أضع خطوات عملية، تقع على عاتق المجتمع، والأسرة، والمدرسة، وسائل الإعلام، لتنمية سلوك المواطن في الجوانب التي أشرت إليها آنفًا.
تنمية سلوك المواطن دينيًا
إن الإنسان منذ أن يرى ضوء الشمس، يشعر بالتدين الفطري في روحه، أي أنه فطريًا يعترف بوجود الله، ويحاول بعد ذلك أن يتساءل عن ماهية الله “سبحانه وتعالى”
فإما أن يتشدد في متاهة الأسئلة التي يطرحها على نفسه، وقد ينجو منها ويصل إلى برّ الأمان، أو يقع في غياهب الظلمات، ولا يفهم أي شيء عن الدين الذي يجب أن يعتنقه.
وهنا يقع على المجتمع، والأسرة، والإعلام، والمدرسة عاتق تنمية سلوك المواطن دينيًا، من طور النشئ حتى تدب الشيخوخة في أوصاله.
وقبل أن نعرض الكيفية، فإني أعرض سبب ضرورة تنمية سلوك المواطن دينيًا؛ فالإنسان حين يعرف دينه، ويستقر عليه، ويعي إجابات كل ما يجول في خاطره من التساؤلات حول وجوده وإلهه، فإنه بطريقة ما ينتابه شعور الحماية والاحتواء من رب قوي أقوى من العباد، ويستطيع أن يطلق إبداعه باطمئنان وذكاء حتى يصير نافعًا للمجتمع، المجتمع الذي أمره الله “الذي يعبده ويدين له بالعبودية” أن يعمره، ويبذر فيها الخير، ويحصد الشر بمنجل الدفاع المستميت.
أما عن الكيفية التي يجب بها تنمية سلوك المواطن دينيًا، فإن الأسرة منذ النشئ يجب أن تدفع أولادها إلى الدين القويم، مبدين له الأسباب الصحيحة حول كل ما يدور في رأسه من تساؤلات، دون أن ينهروه أو يتهربوا منه، فلا يشك الابن أو الابنة في دينهم، ويصيبهم الارتياب في تفكيرهم، ومن ثم يهيمون على وجوههم في جفاء الكون دون أن ينفعوه بشيء، بل يترسب في نفسهم البغضاء تجاه الوجود، ويسعون لتدميره، قبل أن يشرع الكون في تدميرهم.
وهنا تكمن أهمية تنمية سلوك المواطن دينيًا، حتى يلتزم بدينه، ولا يتشتت في فضاء التساؤلات عن وجوده وخالقه، ويصبح قادرًا على الإبداع والتنمية، وهذا الدور يجب أن يتولاه، إلى جانب الأسرة، المدرسة، ووسائل الإعلام، والمجتمع كله.
تنمية سلوك المواطن أخلاقيًا
وبعد أن استتب الأمر لنا بأسباب ضرورة تنمية سلوك المواطن دينيًا، والكيفية التي يجب أن ينتهجها المجتمع: الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، فإني أحاول أن أضع خطوات واضحة لتنمية سلوك المواطن أخلاقيًا، وأهمية ذلك.
إن الأخلاق هي ما تزين روح المواطن في المجتمع، فتحوله من مجرد إنسان مستهتر تافه، إلى إنسان يتحلى بالمبادئ والالتزامات تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه.
وإن جوهر الأخلاق يكمن في الضمير؛ فالضمير هو الذي يدفع المواطن لسلوك اتجاهات الخير، والابتعاد عن اتجاهات الشر، فيلتزم بنظافة المجتمع، ويبدأ بنظافة نفسه، ويلتزم بالعدالة في المجتمع، بعد أن يبدأ بها في نفسه تجاه الآخرين ممن حوله، ويلتزم بالسلوكيات الأخلاقية تجاه كل شيء في المجتمع، بعد أن ينميها جيدًا في نفسه ويلتزم بها ولا يحيد عنها مهما تعرض للضغط أو الشهوات.
وهذا الأمر في المقام الأول يعود على الأسرة؛ إذ يربون أبنائهم في مجتمعهم الصغير، على النظافة، واحترام آراء الآخرين، والعدالة التي يمارسها الأب فيما بينهم، والاحتواء الذي تدفء به الأم أبنائها، فيصيرون ذا أخلاق كريمة، يراعون ضمائرهم في كل ما يفعلون، فيصير ضميرهم عند الخطأ كالغصة في القلب، تدميهم كلما أخطأوا تجاه مجتمعهم الصغير، ويستمروا على ذلك حتى كبرهم، فتنعكس أخلاقهم على المجتمع الأكبر، وتعم الألفة والسماحة والرحمة والعدل والأمان في المجتمع، لأن كل مواطن ابتدأ من نفسه في تنمية سلوكه أخلاقيًا.
تنمية سلوك المواطن عقليًا
وبعد أن استطاع المواطن أن يصل خلال مراحله العمرية إلى بر الأمان في دينه، وأخلاقه، وأصبح نقيًا يخلو قلبه من الشوائب تجاه مجتمعه ووطنه وأسرته بكل ما فيها من المميزات والعيوب، يتبقى لنا أن ننمي سلوكه عقليًا.
وتنمية سلوك المواطن عقليًا يتضمن تحري المهارات المميزة التي يتمتع بها وتسخيرها من أجل أن يفيد نفسه ومجتمعه، وذلك بتنميتها وتطويرها لصالح الوطن والمجتمع، ليصير المواطن حضاريًا منفردًا بين أقرانه، ويصير المجتمع الذي يقطنه منفردًا بين غيره من المجتمعات.
وأول ما يجب على المجتمع فعله حتى ينمي سلوك مواطنيه عقليًا، أن يتنازلوا عن الطرق العقيمة التي يدفعوا إليها طلبة العلم، ويجبرونهم على مناهج تعليمية يصبونها في عقولهم صبًا، والطلاب بدورهم يصبون ما تعلموه في ورقة الامتحان ثم ينسون ما تدارسوه بعد ذلك.
بل يجب على المجتمع، ومدارسه، أن يتحروا ما يثير اهتمام طلابهم، ويدفعونه لتطويره، فينبغ كل طالب فيما يحب، ويسخره من أجل تطوير المجتمع الذي يقدره، ويقدر ما يفعله ويؤمن به ويحبه، وأيضًا يدعمه، ماديًا، ومعنويًا، وكل أنواع الدعم، فلا يشعر بالانفراد بالنبذ في المجتمع، بل يشعر بالانفراد فيما نبغ فيه من العلم.
والأمر الآخر الضروري الذي يجب أن يدفع المجتمع مواطنيه إليه: هو القراءة، فالقراءة زينة العقل، بها يستطيع الإنسان أن يتطلع إلى ثقافات الشعوب والمجتمعات الأخرى، فيستفيد من خبراتهم، ونبوغهم، وتفوقهم، وتتوسع آفاقه، ويتمتع بذكاء حاد لا يضاهيه أحد في مجاله.
وهكذا، أفردنا القول في أهمية تنمية سلوك المواطن على جميع المستويات، فالمواطن هو حجر أساس المجتمع، إذا زرعت فيه الخير، عاد بالخير، وإذا أهملته وزرعت في الشر، عاد بالشر.