لم يبق إلا أسابيع قليلة ويظلنا شهر مبارك طيب النفحات، شهر القرآن والصيام والقيام، ننتظره بشوق ونستقبله بعزيمة وإرادة، ونحسن إلى أنفسنا فيه، وعلى الرغم من علم الجميع بفضل هذا الشهر وكرامته عن سائر الشهور إلا إن هناك من الناس من لا يزال أسير شهواته وطوع نفسه ورغباته، ولا زال منهم الغافل عن قيمة هذا الكنز والجاهل بثوابه وبعقاب العاصين فيه.
وهنا سنتحدث عن فريضة الصوم وحكمها وكيف جعل الله الأمر بالصيام بين التشديد والتيسير، وكيف يجب على المسلم فهم واستيعاب خطورة أمر الصيام وعدم الاستهانة بهذا الفرض العظيم وعدم تضييع أجره.
متى شرع الصيام؟
شرع الصيام ضمن ما شرع من الأحكام والفرائض بعد الهجرة النبوية المشرفة إلى المدينة حيث استتب الأمن للمسلمين، وأصبح لهم كيانهم الذي فرض وجوده على جزيرة العرب، فاتخذ التشريع مساره الطبيعي في الأمر والنهي وتفصيل الأحكام ومتعلقاتها، ليكتمل دستور المسلمين ويبين الله طريق الحق والباطل.
ولم يشرع الصوم قبل الهجرة لحداثة عهد المسلمين بدينهم وتلك الصراعات والحروب التي تحيط بهم، فلو شرع من قبل الهجرة ربما شق عليهم، فمنع الانسان نفسه من اتيان ما يباح له من شهواته والصيام عنها يحتاج إلى يقين راسخ وعقائد قوية وإيمان صلب لا يتزعزع، والصيام درب من دروب مجاهدة النفس وإدارة رغباتها.
ومن الجدير بالذكر أن مشروعية الصيام وفرضيته جاءت على مرحلتين أحدهما على التخيير والثانية على الإلزام والوجوب.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم : ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة :185).
أوجه التشديد والتيسير في الأمر بالصوم
الصيام فرض وركن من أركان الإسلام وهو الركن الخامس ، وهذا ما دل عليه حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».
وركن الشيء هو أساسه ودعامته وما لا يقوم هذا الشيء إلا به، وقد جاء تعبير النبي –صلى الله عليه وسلم بلفظ ” بني الإسلام على كذا وكذا، لبيان أهمية وجدية وخطورة تلك الفرائض، فهي أول ما يسأل الفرد عنها، وتركها يعد من الكبائر، وانكار فرضيتها درب من الكفر، ومن ثم فغننا لسنا مخيرون في الصيام وتركه ولكنا مأمورون بذلك.
ومن التشديد أيضًا والتأكيد على فرضية الصيام وجديته أن لا يباح الفطر للمسلم مع تحقق مشقة الجوع أو العطش أو التعب، بل يلزم الصيام في تلك الأحوال.
ومن التشديد كذلك أن الصيام يظل معلقًا في ذمة صاحبة فإن أداه سقط عنه وغن تركه طولب بقضائه وإن مات وعليه صيام، شرع لذويه وورثته أن يقضوا عنه ما عليه من الصوم كما يقضون ما عليه من الدين.
أما وجه التيسير فيتمثل في عدة مظاهر تشريعية طيبة ومنها جواز الفطر وترخيصه لبعض الحالات والتي شملتها الية الكريمة في قوله عز وجل: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185).
فللمسلم حق الفطر متى تحقق مع صومه العنت او المرض، ومتى أصبح الضرر مؤكدًا والأذى قائم، كجواز الفطر للمريض الذي يخشى عليه تأخر الشفاء بالصم او زيادة المرض.
ومن أوجه التيسير أن أبيح الفطر للمسن الذي لا يقوى على الصيام لكبر سنه أو مرضه
وكذلك من التيسير والرحمة الرخصة في الفطر للصائم إذا كان على سفر يزيد عن مسافة القصر، حيث أن السفر أبعد من مسافة القصر مظنة المشقة والتعب، فشرع الفطر.
ومن التيسير أيضًا أن أجاز للحائض والنفساء الفطر لمظنة الأذى والتعب، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن صيام الحائض أو النفساء قد يعرضها للتعب واعتلال الصحة، فرفقًا من الله ورحمة بها شرع لها الفطر وتأكيدا على الصيام وأهميته طالبها بالقضاء ولم يسقط عنها ركن الصوم وفرضيته.