«مِنَّة» تسأل: عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، ذهبت لمعهد لتعلم اللغة الإنجليزية، في هذه المرحلة العمرية كنت على نحو من التعقيد والعناد تجاه كل ما يُلقى على سمعي من أحاديث الشباب المحبين أو المعجبين، وقصصهم السخيفة، وكنت لا أكترث لوجود تافهي التفكير، وما زلت كذلك ولكنني تهاونت كثيرا أو أصبحت أراعي مشاعر الآخرين وأسمعهم.
أحد الطلاب كان يجلس على الطرف المجاور لي، وهو في نفس مرحلتي ، وكان كثير الحديث الهزلي مع الفتاة التي بجانبي ؛ فكانت تسمع كل سخافاته مثل المكالمات الغرامية التي يجريها مع بنات الناس، ومغامراته في قيادة السيارات وغيرها من المواضيع التي لا أكترث لها، وأحياناً تثير غيظي.. وإني لصادقة فعلا عندما أقول إنه لا أحد كان يشد فضولي لكي أنظر إليه أو أتعرف على شكله وأنا دائما كنت أتعفف من النظر.. أما هو فكان ضعيف الشخصية وبالتالي فرضت عليه أن يحترمني ويتجنب الحديث الجانبي معي، وبالتالي كنت أعده شخصا مسالما غير مؤذٍ.
وكنت حينها معجبة بمدرسنا، ولم أكن أخجل من قول ذلك بل إنني دائمة الصراحة عندما يتعلق الموضوع بمن اقتديت بهم ممن مروا عليَّ، مثل: والديّ، جدي ،القرضاوي، وغيرهم،بعد أربع سنوات في الجامعة… ولقد تغيرت وتهاونت كثيرا رغم أنني ما زلت محافظة جدا وصلبة قليلا، صادفته في أحد الفصول، وقد أصبح أكثر رجولة رغم أني ما زالت أراه قبيحا. في البداية بدأت أسترجع تلك الأيام ، وفي يوم ذهبت مبكرة للمحاضرة جاء بعدي بقليل وأخذ ينظر لي وهو يقترب من الصف حيث كنت واقفة أنتظر وعبر أمامي ثم رجع مرة أخرى، وأخذ ينظر لي مجددا وكأنه تذكرني ثم حول بصره سريعا نحو الباب يراقب من هم في الداخل، خفق قلبي بشدة. وبعد طول تفكير في هذا الوقف أصبحت أشتاق لمحاضراتنا المشتركة، أما الآن فأشعر أنني أحبه، لا أستطيع أن أنكر ما أنا فيه.. ولا أستطيع أن أبوح لأحد.. بيئتي غير مساعدة .. حتى القلم أعجز عن حمله إن أردت أن أفرغ ما بداخلي.. كل ما استطعت أن أفعله يوما هو كتابة: ماذا أفعل؟ ماذا أقول؟ ـ في باص الجامعة.
لأول مرة أشعر بالخوف من هذا الشعور مع أني جربته مراتٍ عديدة في مراحل عمرية مختلفة، الصحبة قليلة، والشيطان يلازمني ويوسوس دائماً.
وبدأت الأحلام الوردية، واستأت حين أصبحت لا أتلذذ في العبادة، أعرف أنه أقرب للجهلاء من المثقفين، منحرف ومنحل أخلاقيا، ولكنه مازال قريبا من تفكيري.
أحاول دائما أن أتذكر الذين اقتديت بهم، وكنت أضرب بهم المثل وأتمنى الزواج من أمثالهم ولكن قلبي أعمى وعقلي فارغ حاليا لم أستطع أن أبعده عن تفكيري، وانتهزت فرصة رمضان، لأختبر نفسي، ولم أترك سجودا ولا قنوتا إلا ودعوت ربي أن يخلصني من هوى النفس الأمارة بالسوء ولكن دون جدوى، أشعر الآن بأنني لست مخيَّرة بل مسيَّرة.
وقد شعرت براحة كبيرة لكلامه إلا أنني ما زلت أتوتر عندما يدخل […] الصف ويرسل نظراته الخاطفةـ لي أو لغيري. ما هو الحل؟ كيف أنهي هذا العذاب؟
مشكلتي أنني لست مغفلة ولا معتوهة بل إنني أعرف أن النظرة سهم من سهام إبليس وأن حبي من طرف واحد وأنا لا أريده أن يكون متبادلا، ولا أريده أن يزول، وكنت أتمنى أنه لم يوجد:
وإن وجد الهوى حلو المــذاق ** فما في الأرض أشقى من محــب
مخافة فرقة أو لاشـــــتياق ** تراه باكيا في كل حـــــــين
ويبكي إن دنوا خوف الفـــراق ** فيبكي إن نأوا شوقا إليــــــهم
وتسخن عينه عند الفـــــراق ** فتسـخن عينه عند التلاقـــــي
الإجابـة
أختي الكريمة، ربما يكون من الأنسب الآن أن أقول: ابنتي ولكنني أختار الأقرب، ولعله مقام الآخر الأكبر.
تخلطين بين أمرين الصلة بينهما واهية إلا في إدراكك الحب، وذلك الفتى الذي تروين طرفا من حكايتك معه.
فتاة جادة ومستقيمة ترى الصلابة والصرامة والجدية هي الخصال اللائقة بها، وتتمسك بهذا المظهر الفولاذي حتى أنها لا تتورع عن زجر الآخرين لمجرد أنهم قد تجرءوا بالخطأ أمامها في حق الغير، الأمر الذي لم يعتبره هذا الغير خطئا، أليس هذا من قبيل التدخل فيما لا يعينك؟ نعم، ولكنه مفهوم، ويقع ممن هم في مثل سنك وليس هذا تبريرا للخطأ، أو تصغيرا من شأنه، ولكنها محاولة للتوازن بين التهويل والتهوين، وهما طرفان في الحكم على الأشياء، وعامة أخطاء سن المراهقة تأتي من الوقوع في أحدهما والحكمة والتوازن أولى، هذا عن خطأ الماضي.
ثم تكبرين وتنضجين بيولوجيا ونفسيا، وتتحرك مشاعرك الرومانسية، وتتفجر طاقاتك الحسية دون استثمار يُذكر، والاستثمار هنا يكون بالإبداع والتعبير عن هذه المشاعر والطاقات أو توظيفها في عمل إنساني أو خبرة روحية، أو يكون بالدخول في علاقة حب منضبطة وهادفة، كما نحاول أن نتصور ونكرر في إجابات كثيرة.
ويبدو أنك لم تفعلي هذا ولا ذاك، فقط بقيت تتحسرين على أيام الصلابة، ومشاعر الصرامة تحسبينها المثال، والتوازن أولى كما ذكرت لك، والمرونة شرط المواصلة، ولا علاقة لها أبدا بالانحراف، والعود الصلب ينكسر أسرع لأنه يابس وشديد الخواء من الداخل، أما العود المرن الذي تتدفق فيه الحياة نشاطا وفنا وتعبيرا ومشاركة في حركة الناس، وينهل من كل نبع صافٍ للجمال، ويتذوق من كل رحيق رشفة، ومن كل معين نقي شرْبة، هذا العود أقدر على مواجهة الريح، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، مساكين يظنون الدين والخلق في الخصومة مع جمال الحياة في فنون التعبير وتجسيد الخيال، والكلام في هذا يطول.
والخلاصة هنا أن هذه الطاقات المتفجرة المتدفقة بداخلك، التي تفتقد التوظيف، وتبحث عن مخرج قد وجدت الشرخ البسيط القديم المتعلق بهذا الفتى فاندفعت مضغوطة من خلال هذا الشرخ، وما يتردد من أصداء النحيب بداخلك ليس سوى صوت اندفاعها وتحسبينه أنت صوت الحب.
وبدلا من أن تفهمي طبيعة ما يحدث وأصوله، رحت تلقين على كل هذا بالأغطية حتى لا يظهر، فكيف سيتاح لك أن تعرفي حقيقة ما تحت طبقات الأغطية، وأنت تريدين نفيه بصرامة الأمس التي لم تعد تسعفا!.
كثيرا ما نقول للمحب المتألم: هنيئا لك، واستمتع بهذا الألم العظيم الذي هو أجمل الآلام وأعذبها على قسوته، ولكنك لست كذلك؛ لأن ما أنت فيه ليس حبًّا من الأساس، ولكنه لحظة انكسار عود صلب بفعل ريح تندفع من داخلك عبر شرخ الموقف القديم مع هذا الفتى.
الأمر كله شخصي يخصك وحدك، ولا علاقة لهذا الشاب به إلا أنه مجرد مثير يهيج الريح ويفتح الشرخ فتندفع.
وأنت تخلطين بين آلامك تحسبينها حبا بينك وبين هذا الشاب غير المناسب لك بكل المقاييس، فنصبح وكأننا أمام حب يائس ومعركة هائلة تستهوي من لديه طاقة ووقت لم يصادف استثمارا وتوظيفا فتورَّط في الملحمة الخاطئة.
وعلى كل حال تحتاجين:
- أولا إلى التفهم أكثر مما تحتاجين إلى مقاومة شيء لا تفهمينه، وتحتاجين ثانيا إلى معالجة الشرخ القديم بأن تطوي صفحته بتسوية مفادها أن ما حدث كان مجرد رد فعل متسرع أحمق مقبول من مراهقة جاء كرد فعل على تصرف أرعن من شاب أخرق صادف أذنا مصغية من فتاة أخرى، ولعلك تعرفين مستقبلا حدودك وستعرفينها مع نمو نضجك الشخصي.
- وتحتاجين ثالثا إلى توظيف واستثمار تلك الطاقة البكر بداخلك، التي إن لم تكن عمارا كانت دمارا، وقد تجدين نفسك ماهرة في مسار التعبير الأدبي أو الفني بأنواعه، أو قد تجدين نفسك في النشاط الطلابي، أو العمل الخيري، أو غير ذلك من نواحي الفعل المبدع البنّاء، ولعلك في حركتك الراشدة تلك تصادفين الحب الحقيقي، وستعرفينه يومها، وستدركين الفارق الهائل بين رنة الذهب الخالص وصوت الدينار المزيف حين يصطدم بسطح صلب.
أدعو الله أن يهيئ لك من أمرك رشدا، وأن تنضجك نيران هذه التجربة، ولا ينضج شيء مثل نار التجارب، وتابعينا بأخبارك.
⇐ هذه أيضًا بعض الاستشارات السابقة:
- ↵ كيف أنسى فتاة أحببتها ولم تقبل حبي؟
- ↵ حب بعد الانفصال: هل أصارح أم أكمل الصداقة؟
- ↵ الزواج: بين صعوبة الحلال وسهولة الحرام
⇐ أجابها: د. أحمد عبد الله