لعلّ الكثيرون يُدركون معنى قضاء شهر رمضان في مصر الحبيبة، فحين يدنو شهر رمضان، فإن المجتمع المصري يلتمس في قلبه فرحة لا يعهد مثلها في الشهور الأخرى من السنة، فشهر رمضان شهرٌ مقدس، أجلَّه الله، وعظم أيامه بالبركات والخيرات التي يضفيها على الناس في الدنيا والآخرة، فالفطرة جعلت من قدومه سعادة لا تضاهيه سعادة، يعبر عنها المجتمع في أشكال شتى، من كل فئات المجتمع وكل طبقاته، من الحكام وقاطني القصور، حتى ساكني المناطق العشوائية.
وشهر رمضان عند الأطفال له خصوصية لا يعيشونها في غيره من الشهور، فيهرعون إلى الشوارع من أول يوم، ويملؤون الأرض فرحًا ومرحًا، ويثيرون شغبًا في الشوارع، وينغصون هدوء بال الكبار بالألعاب النارية، والأصوات العالية والضحكات، والأغاني التي يرددونها، وأصوات فوانيسهم.
كل تلك المظاهر للاحتفال في مصر بداية من اجتماع الأهالي على حوانيت (الفول، والفلافل) لشراء السحور، إلى مدفع الإفطار، وصوت أذان المغرب، وهدوء الشوارع في تلك اللحظات.. وغيرها من مظاهر وجود شهر رمضان في مصر، رغم تطورها على مر العصور، إلا أنها لا تنتهي، ولا تندثر، بل تستمر وتتطور، ويبتدع الشعب فيها أشكالًا أخرى، وكلها تدل على شدة احتفائه بقدوم الشهر الكريم، وتشير إلى مدى هيبة ذلك الشهر، ومدى انتظار الناس له حين يعاود بعد طول انقطاع.
إن عقلي يدور الآن، كالفوانيس التي تشكل أولوانًا مبهجة على الحوائط، ويفرح بها الأطفال ويهرعون بها في الشوارع متغنين “وحوي يا وحوي”.
يدور في الشوارع والأزقة والحارات، أرى الزينة ذات الألوان الزاهية المبهجة، والفانوس الكبير المصنوع من الصفيح والذي ينير بقعة كبيرة في الشوارع، وبجانبه المصابيح المعلقة والتي تنير باقي الشارع.
أجري على المسحراتي، وأحثه على أن ينطق اسمي ويدعو لي، ويشعرني بمكانتي وسط الأطفال الذين يلعبون معي.
أسعد بعائلتي التي تجتمع في كل يوم من أيام رمضان على المائدة، ونقضي فترة الإفطار وبعده في التسلية والاستمتاع بالمأكولات والمشروبات الرمضانية.
إن شهر رمضان يثير في ذاكرتي ذكريات عديدة مبهجة، منذ تفتحت عيني على الدنيا، حتى اشتد عودي وصرت أجوب الشوارع والمناطق الأثرية في مصر لأرى مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم، وأزداد تعجبًا من الفطرة النقية التي تدفع الناس جميعًا من كل الأطياف وكل الفئات، ومختلف الأعمار، للاحتفال بذلك الشهر الكريم على المستوى الروحاني والمستوى الاجتماعي.
قبل ثبوت هلال شهر رمضان
إن الناس عادةً تعد العدة لشهر رمضان قبل ثبوت الهلال بأيام قليلة؛ تبدأ التحضيرات بصخب الأسواق وازدحامها، وتزاحم الناس فيها لشراء ما يلزمهم للشهر، من الياميش وما يحتاجونه للولائم التي يعدونها في رمضان لدعوة الأقارب.
تُفتح حوانيت الكنافة والقطايف التي تغلق أبوابها عادةً في الأيام الأخرى، فيلتمس الناس مدى اشتياقهم (للكنافة) حين يرون أفران الكنافة منتصبة في الشوارع، ويتزاحم حولها الناس يبتاعون منها ما يكفيهم الشهر كله، حتى يشبعوا شهيتهم منها بالأشكال والابتكارات المختلفة.
على جانب آخر، فإن الشباب والأطفال يتضافرون من أجل تزيين الشوارع، فيبتاعون الزينة ويعلقونها، ويعلقون المصابيح التي تنير الشوارع في الليل، والفوانيس الكبيرة التي توضع كعلامة على قدوم الشهر الكريم.
الياميش
- الياميش من أشهر مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان، من أول انتشاره في الأسواق بكثرة قبل رمضان بأيام، إلى أن يتناوله المصريون على الإفطار كعادة ألفوها ولم يمتنعوا عنها من قديم الأزل.
- والياميش الذي يشمل (عين الجمل، والفستق، واللوز، والبندق) غني بالبروتينات والمواد المفيدة للصحة، إلى جانب التمر الذي سنَّه الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
- والياميش كلمة تركية معناها: الثمار الجافة، واستخدم المصريون الكلمة للدلالة على كل ما تشمله الكلمة إلى جانب البلح وقمر الدين وغيرها من المأكولات الرمضانية. ويقال أن كلمة الياميش اشتقت من اللهجة المصرية وتم استخدامها منذ العهد الفاطمي.
- وانتشرت منذ العهد الفاطمي أسواق الياميش، وكانت تلك الأسواق محل ارتحال التجار من الشام لبيع بضائعهم من الياميش قبل حلول الشهر الكريم.
الفانوس
إن الفانوس يستخدم الآن كأداة لتسلية الأطفال، ومظهر من مظاهر احتفائهم بالشهر الكريم بالتطورات التي أدخلت عليه، غير أن الفانوس في العصور القديمة ولا سيما عصر صدر الإسلام كان يستخدم لإنارة الطرق وإضاءتها ليرى الناس طريقهم للمساجد وعند زيارة الأقارب في المساء، حتى حلت الدولة الفاطمية، وتحول معها الفانوس إلى أداة ترفيهية للأطفال تعبر عنهم، وعن بهجتهم وسعادتهم، وأُدخلت التطورات على الفانوس وصار يتغنى بأغاني رمضان التي نألفها على الألسن “رمضان جانا، أهلًا رمضان”.
المسحراتي
- المسحراتي هو شخص يمر في الشوارع قبل فترة الإمساك، ينبه الناس ويوقظهم للسحور وصلاة الفجر، ثم يعود بعد انقضاء الشهر، ويجمع من الناس ما يجودون عليه به، من أموال، والكعك المعد لعيد الفطر، وغيرها..
- إن ظاهرة المسحراتي لها أصل متجذر في الشعب المصري منذ عهد الدولة الفاطمية، ففي زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي، كان الجنود يمرون على البيوت ليوقظوا الناس للسحور، نظرًا لنومهم مبكرًا.
- وعلى ذكر المسحراتي يأتي ذكر السحور.
السحور
- إن السحور في البيت المصري لا يخلو عادة من أطعمة نألفها، من الفول، والفلافل، والبيض، والزبادي.. وغيرها.
- والسحور وجبة قبل أذان الفجر والإمساك عن الصيام، قد سنها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفيها فوائد عديدة أشهر هذه الفوائد، أنها تعين على مشقة الصيام، وتقليل الشعور بالجوع والعطش، وتقليل الشعور بالكسل والخمول.. وغيرها من الفوائد.
موائد الرحمن
موائد الرحمن، هي موائد طويلة قد تمتد بطول شارع، تقام خصيصًا للفقراء، وعابري السبيل، وموائد الرحمن قد يشترك فيها كثير من الناس، أو يقيمها شخص مقتدر ماديًا، وتكون ثرية بالأطعمة.
وهي ظاهرة بدأت من العصور القديمة، وظلت في تطور إلى يومنا الحاضر، لكن لم يكتب عليها الفناء أبدًا من العادات التي تعود المصريون عليها، وأحد أبرز علامات شهر رمضان في مصر المحروسة.
صلاة التراويح
- إن صلاة التراويح من الشعائر الدينية التي يداوم عليها الناس في شهر رمضان، حيث تمتلئ المساجد بالمصلين عند أذان العشاء، وتُفرش الفرش في الشوارع حتى تسع الأعداد الهائلة للمصلين الوافدين لصلاة التراويح.
- والناس عادةً تتوافد على المساجد التي بها أئمة أصواتها عذبة في القراءة، فيكون قادرًا على استحضار خشوع المصلين في الصلاة، وتنتهي الصلاة بالدعاء المطول بعد الركوع من صلاة الوتر ثم استكمال الركعة.
- إن شهر رمضان بالنسبة للمصري وقتٌ يحمل عالمه من مجرد الخواء والروتين، إلى العيش في أجواء إسلامية وشعائر لا نعرفها إلا في رمضان، لذلك كان شهر رمضان مصدر إلهام لكثير من الأدباء المصرين، لما يغيره في نفوس الشعوب، وما تحدث فيه من الطقوس والشعائر التي لا نألفها في الأيام الأخرى من العام.
- كتب إبراهيم عبد المجيد روايته “لا أحد ينام في الإسكندرية” مستلهمًا أجواءها من شهر رمضان الكريم، مصورًا فيها مظاهر الوحدة والأخوة بين المسلم وأخيه المسيحي.
- والدكتور “طه حسين” يصف لحظة الإفطار وصفًا أدبيًا بديعًا، يقول: “فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب، وأصغت الآذان لاستماع الآذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام فتري أشداقًا تنقلب، وأحداقًا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لُبَّه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب، الآن يشق السمع دوي المدفع فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود ومع تعدد أصناف الطعام علي مائدة الإفطار في رمضان فإن الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية .