أيام قليلة تفصلنا عن شهر رمضان، وحين يهل الشهر الكريم، نشعر بأجواء رمضانية لا نعهدها في الأوقات الأخرى من العام، ذلك الجو الذي يعبق بروائح المنتجات الرمضانية، ورفرفة الزينة فوق شرفات المنازل، والفوانيس التي تضيء الطريق في الليل، وفي أيدي الأطفال يلهون بها ويتغنون بأغاني رمضان التي عهدناها منذ صغرنا، ولا نكل ترديدها في الكبر.
شهر رمضان شهر البهجة والسعادة
شهر رمضان شهر بهجة في نفوس الناس كلهم، يُدخل البهجة، والسعادة في النفوس من أول البيت الصغير مرورًا بالمجتمع كله، وكل تلك البهجة لها أسبابها بالتأكيد؛ فشهر رمضان شهر خير وبركة، يعود بالفضائل الكثيرة على الناس، رمضان يهب الناس البركة في الرزق والعمل والأولاد، ويعطيهم أمل جديد، فهو ضيف عزيز، غالي جدًا على النفوس، لا نكل أبدًا من إعادته، بل نتمنى أن يصير كل العام رمضانًا، لما يدخله على النفوس من الرضا والرحمة، وما يزيله من النفوس من مظاهر الشر، كالحقد، والغيرة والحسد.
فضل الله شهر رمضان بفضائل عديدة، تعود على الناس بكل خير، فشهر رمضان هو الشهر الذي تنزل فيه القرآن على الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وجعل الله “سبحانه وتعالى” فيه البركة، وفرصة جديدة في حياة المسلم، إذا استغلها بالعمل الصالح فإنه ينال أعظم الجزاء، ينال الجنة التي لا تغلق أبوابها في شهر رمضان، ويبعده الله عن النار، لأنه يغلق أبوابها في شهر رمضان، ويغفر الله لمن صام صومًا مليء بالإيمان ما تقدم من ذنبه. كل تلك الأسباب وأكثر منها كثيرًا مما لا أتمكن من إفراده في هذه السطور القليلة، ما يجعل الناس في أشد بهجتهم لمجيء الشهر الكريم، ويستقبلوه بالبهجة، ويبتدعون في مظاهر الاحتفاء به، ولا يكفون على تهنئة بعضهم بعضًا بقدومه، كأن بهم يقولون: (قد عاد رمضان عليكم، ووهبكم الله فرصة جديدة لحياتكم). فاغتنموها إذًا، ولا تتوقفوا عن البهجة التي يضفيها رمضان في النفوس.
شهر رمضان إذا أتى على الشارع في المجتمع، فإن الناس يهبون لتزيين الشوارع بزينة، زاهية الألوان، تضفي البهجة في النفوس، يرفرفها الهواء، ويجعلنا نشعر بأجواء رمضان الجميلة، وتعلق الفوانيس الكبيرة في الشوارع، الذي كان يستخدم آنفًا في هداية الناس، خاصة الكبار السن، إلى صلاة الفجر، لأن الشوارع كانت مظلمة، أما الآن بتطور الكهرباء، فإنه يعلق للزينة، ورغم ذلك لم يستغنى عنه الناس أبدًا، لأنه أول مظهر من مظاهر الاحتفاء بالشهر الكريم. وإذا أتى الليل، وأوقدت المصابيح عاكسها ضوؤها في أشكال الزينة المبهجة، وأُضيء الفانوس الكبير المعلق في مركز الشارع، فإذا هي البهجة والشعور السعيد يأتينا بشكل يدفعنا إلى التطلع إلى الأمل الجديد العائد علينا من بعيد.
ولا نغفل ما يضج به الأسواق من المظاهر الرمضانية، منتجات كثيرة تستعد الأمهات لاقتنائها لا يستغنى عنها البيت في هذا الشهر الكريم، أشهرها الياميش بما يشمله من البلح، والفسدق، وعين الجمل، وغيرهم، والخشاف، وقمر الدين، والزبيب، وجوز الهند، والمنتجات التي تزهو نضرة في شهر رمضان، فلا تتوانى الأمهات على اقتناء ما يكفيهم لطول الشهر، حتى لا يحتجن أن يذهبوا إليه في أوقات الصيام.
عليك بقراءة: شهر رمضان فيه خير الفضائل
والمنتجات التي لا نشهدها سوى في شهر رمضان، وإذا حل شهر رمضان فإننا نعد شهيتنا لها، وإذا وجدناها في غير شهر رمضان فإننا لا نشتهيها، فهي مخصوصة في شهر رمضان ليس غيره؛ تلك المنتجات هي الكنافة، والقطائف. نعم، أذكر أنه عندما يحين رمضان، ينصب البائعون أفران الكنافة في الشوارع، وبمجيء الشهر الكريم، أراهم، بحرفية شديدة متقنة، يفرشون عليها الكنافة، وتغدو رقيقة كالشعر الطويل، فكأنها قصيدة ينسجها صانعها من وحي خياله المستقي من الجمال، والإبداع، والحرفية المتقنة. والقطائف التي يسويها البائع في شكل دوائر متقنة بشكل يبعث على الدهشة من إتقانه، وكل ذلك في كفة، وما تصنعه الأمهات بهما في كفة أخرى، تلك قصة أخرى لابد أن نتناولها.
إن الأمهات دائمًا صاحبات المذاق الجميل في الأكل، والشهية التي تحتوي شهيات الجميع، فبنفسها الجميل في الأكل تتفتح شهيات الجميع، وخاصة في شهر رمضان ألاحظ أن الأمهات يبتدعن في إعداد الطعام بشكل جميل وشهي، على غير عادتهن في الأيام الأخرى، وإذا كان لشهر رمضان رائحة تميزه، فإن الأمهات لها فضل كبير لا ننساه في إضفاء هذه الرائحة وما تدخله من بهجة في نفوسنا لا ننساه.
ونعود إلى الشارع بمظاهر البهجة، لم ننتهي منها بعد؛ الشارع في الليالي الرمضانية لا ينفض من الناس، فالكثير من الأسر، والأصدقاء، والأزواج يفضلون الإفطار في الشارع وسط الأجواء الرمضانية المبهجة، خاصةً في الأماكن الأثرية الإسلامية. في مصر مثلًا: شارع طويل مليء بالآثار الإسلامية، اسمه شارع المعز، يجتمع فيه الأصدقاء عند الإفطار، ويقضون الليل بين الآثار الإسلامية، والكثير من البهجة التي يستعيدوا فيها شبابهم، حتى مجيء السحور. ولا شك أن القاهرة تعبق بمثل كل تلك المظاهر الجميلة من ازدحام الأسر، الأصدقاء، والأزواج.
ومما يشهده الشارع في شهر رمضان تحديدًا، المسحراتي؛ فهو حين يطل في الشوارع قبل ساعات قليلة من صلاة الفجر، لتنبيه الناس للسحور، تهرع إليه الأطفال مهللين، يأملون أن يقول اسمهم وينطق به عاليًا، فالمسحراتي في رمضان، هو إعلام الأطفال الصغير، إذا نادى باسم طفل من الأطفال كأنه قد نال شهرة واسعة في الشارع وبين أصدقائه.
وإذا دخلنا دخلنا نشاهد مظاهر البهجة الرمضانية في نفوس الأسر، نجد أن تلك البهجة تسع الكبير منهم والصغير، رجالهم ونسائهم، الأسرة عامةً تسعد بإقامة الولائم والعزائم التي لا تنتهي بين الأقرباء، فشهر رمضان شهر الرحمة، فهو يصل الأرحام بين الأقارب، ولا تنقطع طوال الشهر.
الكبير في الأسرة، وهو في الغالب الأب، يسعد كثيرًا بقدوم شهر رمضان، لأن ساعات عمله تصبح محدودة، وأغلب اليوم يقضيه في طاعة الله، والوجود بين أولاده وزوجه يأنس بهم ويأنسون به، ويصير للأب بركة في وقته، وفي عمله إذا قضيه في ذكر لله وطاعة وعبادة ولو بالقلب.
الصغير في الأسرة، الابن الذي يكد في ليل نهار في الغالب لينال في دراسته أعلى الدرجات، ينشد في شهر رمضان البركة في الوقت، والعمل، فيهبه الله البركة في دراسته، ويرزقه الهمة والنشاط، والأمل الكبير.
والآن أفرد الحديث عن أهم مظهر من مظاهر الاحتفاء بمقدم شهر رمضان الكريم، وهو موائد الرحمن التي تنتشر على الطول الشوارع، لتسع كل من أراد أن ينعم بإفطاره بصدر واسع رحب، كأن الشارع هو البيت الكبير، والناس فقيرهم وغنيهم أخوة لا يتفرقون عن بعضهم البعض، وكل ذلك دليل على الرحمة الواسعة الذي يتنزل بها الله على الناس في هذا الشهر الكريم.
ناهيك عن المبادرات الشبابية في ساعات الإفطار في الشوارع، فإذا بنا نرى الشباب، وقد استغنوا عن إفطارهم ليساهموا في إفطار الصائمين المتأخرين في الطرق لأي سبب، فيعطونهم بعض التمرات، أو مشروب رمضاني يبتل حلقهم به، وذلك مظهر في غاية الرحمة، ودليل على سعة الصدور والنفوس.
إن في شهر رمضان طقس مجتمعي لا ينتهي الناس منه أبدًا، ابتدأه الناس في زمن قديم، ومازال قائمًا حتى الآن، لا يفنى أبدًا ،بل يظل يتعاقب بتعاقب الأجيال.