نحن، إذا بعُد مجيء شهر رمضان، واشتقنا إليه كثيرًا، فإنما نشتاق لما حلَّ على نفوسنا من الذنب، والتعب، والشقاء؛ يود المرء أن يأخذ هدنة في حياته يعيد فيها حساباته كافة، وأن ينقي روحه التي دنستها الأيام بالمآسي والتعب، وشغلتها الدنيا بما لا ينفع، وشابتها الحياة بالخوف، والتفكير المطول، وإبداء الاهتمام بما لا يجب أن نهتم به.
شهر رمضان يجبر خواطرنا
إننا قبل رمضان، لا نفكر في شيء سوى أنفسنا، تأخذنا الأنانية عن كل شيء، عن أقاربنا، عن أهالينا، وحتى عن الله، وهو الأولى بالإقدام عليه دون أن يشغلنا عنه شاغل؛ نعاني من شواغل كثيرة، هي فتن لنا في الدنيا؛ هذا الشهر المال لا يكفي، وذاك الشهر المسؤولية تزيد، واليوم أحدنا مريض، ويوم آخر شخص من أهلينا مريض.. وهكذا ننشغل بالحياة، وندور في دائرتها التي لا تتوقف ولا نستطيع زيارة المريض.
ما إن يحلُّ الصباح، حتى يشتغل المرء بما عليه في الدنيا، وإن أدى فريضة صلاته، فإنه يؤديها في سرعة، دون خشوع، دون توقف قليلًا مع النفس وسؤالها. وتلك الحياة، لمن ينظر، لا تساوي شيئًا في النهاية، هي عند الله لا تساوي جناح بعوضة.
لكن، إذا قرب شهر رمضان على المجيء، وأصبحنا نراه على بعد شهر واحد، أو أقل من الشهر، نسعد له كثيرًا، لأسباب عديدة: فهو يعطينا الهدنة التي ننشدها في حياتنا، نعم، يظل المرء منشغلًا بأعماله وأولاده، لكن يكون دائمًا في مقامه الأول أن يطيع ربه، حتى يحوز ما أنعم الله عليه في هذا الشهر الفضيل، ولا يضيعه من يديه، لأنه لا يضمن أن يعود عليه شهر رمضان من جديد.
شهر رمضان في تجديد لنفوسنا، من المكاره، والشرور التي ولدتها الأيام في دواخلنا، لذلك نحن نستعد له بكل جوارحنا، ونحاول فيه أن نصل إلى مرتبة الإيمان في الصيام، بقلوبنا، وكل جوارحنا، فيهبنا الله من خيره الكثير في هذا الشهر، في الدنيا: الرزق في المال، والأولاد، والعمل، والبركة في الوقت، وهدوء البال وراحته، وفي الآخرة: الجنة، وهي أغلى غاية يمكن أن يتطلع إليها المرء المسلم.
شهر رمضان يجبر خواطرنا؛ القوي منا، والضعيف، الغني فينا، والفقير، كأن به يهدهد قلوبنا مما أصابها في غيره من الشهور، يعطي القوي السكينة في نفسه، ويهب الضعيف راحة البال، يرزق، ببركة الله، الغني، ويهب الفقير رزقه مما رزق منه الغني، وهكذا تدور الدائرة الصالحة في شهر رمضان، وتعم البهجة في النفوس، ولا تفتأ أن نراها “تلك البهجة” في شوارعنا وبيوتنا.
واقرأ: رمضان ضيف عزيز بكل أيامه ولياليه
ماذا أعددنا لشهر رمضان؟
إن هذا الشهر، لنا معه الكثير من الخيرات التي من الله علينا بها، وإذا تحدثنا عن فضائله، فلن يسع الحديث بضع أسطر، لكني سأوجز من تلك الفضائل ما يمكن أن يشبع نفس المؤمن الرضا في هذا الشهر، ويهم مستعدًا له.
في هذا الشهر الكريم تنزل القرآن على الرسول “صلى الله عليه وسلم” فكان خير ما أنزل على الأمة في هذا الزمان، وكان بداية لعهد جديد قائم على الوحدة، والإخاء، والمحبة، فمنذ بعثته “صلى الله عليه وسلم” دعى العرب إلى نبذ العصبية، والالتفاف حول كلمة واحدة، هي كلمة الله، وأن تتوحد القبائل المتنازعة، ووضع “بالقرآن” دستورًا جديدًا تسير به الأمة في حياتها، في سائر الجوانب: الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والثقافية، وغيرها. لذلك فإن شهر رمضان له في نفوسنا أكبر نعمة، وأفضلها، والتي يجب أن نحمد الله عليها كثيرًا، ونشكره إياها.
في شهر رمضان، يهبنا الله من رزقه الواسع الخير الكثير، فهو “سبحانه” يعطينا بركة في الرزق، والرزق لا يتوقف عند رزق المال، بل رزق في المال، والعمل، والأولاد، وبركة في الوقت؛ فالكبير والصغير ينتفع من الوقت في رمضان وبركته، الكبير: يجد في نفسه الطاقة لخوض أعماله في همة، وبركة، لأنه مخلصًا نيته في عمله لله، والصغير: يجد البركة في الوقت أثناء دراسته، لأنه يخلص نيته في مذاكرته لله “سبحانه وتعالى”
في شهر رمضان، يختص الله المسلمين بمزية لا نعهدها في غيره من الشهور، إن الله إذا حل شهر رمضان، فإنه يفتح أبواب الجنة، فلا يغلق منها باب، ويغلق أبواب النار، فلا يفتح منها باب، وكأن الجنة تنادي للمسلم أن يطيع الله بحب وخشوع ولا يخاف عذابًا، لأن الله “برحمته” أغلق كل أسباب الخوف وأعظمها، وهي النار، فالمسلم حينئذٍ لا ينازع قلبه خوف في طاعته، إنما يتعبد ويقبل على الله بخشوع ومحبة.
كما أنه “سبحانه وتعالى” يصفد الشياطين في هذا الشهر الكريم، فلا يحول بين الإنسان وعمله سوى نفسه، فإن تغلب على نفسه، وحررها من قيد مشاغلها، وهواها، فإن قلبه سيكون كالريشة الخفيفة الهائمة في سماء الله، ولا تثقلها رغبة، أو شهوة.
شهر رمضان يتحقق فيه التقوى للمسلم؛ فالمسلم إذا تعبد خير عبادة، وأقبل على الله بروحه وقلبه وكل جوارحه، والتزم بما أمره الله به في شهر رمضان، من الصوم عن الأكل والشرب، وكل ما يغضب الله، ويلتزم بما يقربه من الله “سبحانه وتعالى” ويجاهد نفسه حتى يصل إلى مرتبة الإيمان، فإنه يخرج من شهر رمضان والتقوى تملأ قلبه، وتثلج نفسه، وبها يهتدي إلى راحة البال، ولا ينظر إلى الدنيا إلا نظرة دار الفناء.
شهر رمضان فيه مغفرة للذنوب، قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” (من صام شهر رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه).
فمن اجتهد في عبادته في شهر رمضان، وحقق مرتبة الإيمان في العبادة، بتقوى الله، والخشوع في سبيله، والإقدام عليه بكل جوارحه، بالعمل، وبالقلب، المغلفين بالنية الخالصة لله “عز وجل” فإنه بذلك يستحق المغفرة من الله لكل ذنوبة، والله واسع الرحمة، غفار الذنوب.
وإليك: رمضان تدريب عملي على الشعور بالغير
ولكل تلك الفضائل، على المسلم أن يتحلى بالأخلاقيات الحميدة في هذا الشهر، والتي كلها تجتمع في خلق الصبر، فالصبر إذا تحلى به المسلم في شهر رمضان، فإنه يصبر على مشقة الصيام، وما يناله من العطش والجوع في شهر رمضان، واضعًا نصب عينيه الثواب، والحكمة من هذا الصيام في حياته وفي آخرته، والصبر أيضًا على الطاعة، فالصابر على طاعة الله، بالتبتل والاجتهاد والمحاولة، وعدم الاستسلام للعثرات التي تزل قدمه فيها، فإنه أحق بكل تلك الفضائل على غيره ممن لا يصبر، وأيضًا الصبر على الابتعاد عن المعصية، فمدمن معصية إذا صبر عليها في شهر رمضان، وعزم أمره ألا يعود إليها، وأن يجتهد حتى يتخلص منها، فإنه يخرج من شهر رمضان بوجه نضر، لا يشوب قلبه شائبة من ذنب، ويتحقق له التقوى والمغفرة، ويستحق الجنة التي وعد الله بها، وينعم في فضائل الله التي وهبها لعباده في هذا الشهر الكريم.
هكذا فإن شهر رمضان يجبر خواطرنا بالكثير من الفضائل، التي تعيد النفس إلى شبابها، وتخرجها من ظلمات الحياة التي أدخل الإنسان نفسه فيها.
لذلك نرجو دائمًا من الله أن يعيد علينا شهر رمضان، بالخير، واليمن، والبركات، وأن يكون ختامنا فيه، حتى لا يحول بيننا وبين جنة الله شيء، وأن نعود إلى الله بصفحاتنا البيضاء التي ولدنا عليها.