مقدمة الخطبة
الحمد لله أولى من حمد، وأحق من عبد، وأرحم من قصد، سبحانه وبحمده، في ذكره للنفس سكينة، وفي قربه للقلب طمأنينة، وفي طاعته للإنسان مفازة عظيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خير مسؤول ومطلوب، كاشف الكروب، وغفار الخطايا والذنوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، الأخشى لربه والأتقى، والأطهر سريرة والأنقى، والأحسن أخلاقا والأرقى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷻ، فاتقوا الله تعالى عباد الله وأطيعوه؛ فلنعم زاد المؤمن تقوى الله تعالى وطاعته ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: إن صفاء الروح ونقاء النفس وخلو القلب من أمراض القلوب سبب لنيل الفضائل من الله، والبركة في الرزق والحال، ذلك أن النفس الطيبة في الإنسان تعينه على اتباع أسباب الرزق في حياته بما يرضي خالقه ﷻ، من إقدام على فضائل الأعمال، واجتناب للفواحش والآثام، يقول الله ﷻ في محكم التنزيل: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾.
والاستغفار الصادق دليل على صفاء الروح ونقاء النفس وسلامة القلب، ورغبة العبد في التغيير، والانتقال من حال إلى حال أفضل، وهذا سبيل إلى محبة الله، ونيل الرضا والقبول في الدنيا والآخرة، يقول الله ﷻ: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾.
أيها المؤمنون: إن القناعة وطمأنينة النفس من أجل نعم الله ﷻ على الإنسان، وإن الشيطان يبث في نفس الإنسان ما يجعله خائفا غير مطمئن لحاله، فيضعفه عن البذل والسعي بالحلال، يقول الله ﷻ في كتابه العزيز: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، إن تخويف الشيطان الناس بالفقر، تخويف يمتد إلى ما هو أبعد من النقص في المادة، فهو تخويف يلمس جوهر الإنسان وصميمه، فيجعله إنسانا محروما روحا وعاطفة، وقد يدفعه هذا الخوف المادي إلى اتخاذ خيارات تتعارض مع قيمه ومبادئه وأخلاقه، وهذا الخوف الذي يبثه الشيطان في نفوس الناس، هو من شقين: مادي مرتبط بالفقر الملموس، ومعنوي مرتبط بزعزعة الاستقرار النفسي والروحي للإنسان، يتمثل في الأمر بالفحشاء.
وهذا الخوف إذا ما استحكمت قبضته على الإنسان، ووجهه إلى غير الفضائل والأخلاق، أثر ذلك في علاقة الإنسان بخالقه، ومكانته في ذاته ومجتمعه، فيتحقق فيه وعد الشيطان، أن يجعله فقيرا من نور الإيمان، وهذا الفقر –عباد الله– أشد من فقر المادة، فهو فقر داخلي يحد من قدرة الإنسان على النمو النفسي والروحي.
عباد الله: من رحمته ﷻ لعباده أن وعدهم بالمغفرة والفضل ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً﴾، وهذا الوعد الإلهي الذي جاء في مقابل تخويف الشيطان للإنسان، هو في جوهره طمأنة للعبد بأن الله معه في أحواله المعنوية والمادية؛ فالمغفرة من الله ﷻ علاج للفقر الروحي، ودواء للندبات التي تخلفها الذنوب والخطايا في النفس، فالمسلم بفطرته يجد في الذنوب أعباء، وفي الخطايا أثقالا، فيأتيه وعد المغفرة من الغفور الرحيم تجديدا لروحه وتحفيزا لنفسه وطمأنة لقلبه ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
وبجانب القرب المعنوي لله ﷻ من عباده، يعدهم الرب المنان بالفضل المادي، بأن يكرمهم بعطاياه ويسبغ عليهم في أرزاقهم، ووعد الله إذا ما تحقق في الإنسان، اتزنت حياته وتوازنت، واستقرت نفسه وقرت، أن حقق لذاته ما لا تستطيع المادة وحدها تحقيقه، من طمأنينة وسكينة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
ونوصيك هنا بمتابعة ⇐ خطبة «حسبنا الله ونعم الوكيل» مكتوبة، شاملة للعناصر والمقدمة والخاتمة
الخطبة الثانية
الحمد لله خالق الإنسان وهاديه، ورازقه وكافيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين وسلم وبارك.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: لقد صور لنا القرآن حالة الافتقار الروحي والنفسي لمن لم يبصر جوهر الإيمان ونوره، ويعش حقيقة الإسلام وسماحته فقال: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾، وهذا الضيق -عباد الله- هو نتاج غياب الفهم لمعنى الحياة، ودور الإنسان فيه، وهو كذلك نتيجة غياب القبول والرضا بأقدار الله، خيرها وشرها، ومشيئته وحكمته في الوجود، قال ﷺ: «إنك لن تجد ولن تؤمن وتبلغ حقيقة الإيمان حتى تؤمن بالقدر خيره وشره أنه من الله».
والضيق المذكور في الآية فيه إشارة إلى محدودية الإدراك، وخلو النفس من الرؤى الوسعى التي تأتي الإنسان بالتسليم والإيمان، فتصبح رؤيته للعالم رؤية مضطربة، محدودة ومحصورة، في المادة واكتسابها دون غيرها.
ومن هنا، يعلمنا الله ﷻ في القرآن الكريم أنه في الإيمان والقرب منه ﷻ يكمن التحرر من الفقر الروحي والمعنوي وأغلال النفس، بتحقق السكينة فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾. فاستعينوا بالله أيها المؤمنون، وأقبلوا على حياتكم وشؤونكم بأرواح طيبة، ونفوس زاكية، وقلوب مطمئنة ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.