الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على الحبيب محمد خير الأنام، وعلى أله وصحبه الكرام، أما بعد.
فإن هذه الحياة إلى فناء محقق، وأن في انتظار الخلق يوم عظيم لا ريب فيه، يشيب له الولدان، وترى الناس سكارى وماهم بسكارى، وتضع كل ذات حمل حملها، يوم الأهوال والهلع والفزع الأعظم، يوم يبحث كل امرئ عن عمل صالح يخفف عنه هول ذلك الحدث الجلل، عن يوم صوم وعطش يشفع له، أو صدقة أو سعي في حاجة مسلم أو تفريج كربة تشفع له عند ربه.
في هذا المشهد الذي يخلع القلوب، حيث تدنو الشمس من رؤوس الخلق، ويغرق العرق الناس كل على قدر عمله، ثمة خلق اصطفاهم الله برحمته ولطفه فقدموا لأنفسهم شفاعة تؤمنهم، وتقيهم حر هذا اليوم، أخبرنا عنهم الحبيب –صلى الله عليه وسلم- وهم سبعة، سبعة ثبتوا عند الفتن ولم تزل أقدامهم، سبعة قبضوا على جمر الالتزام بأوامر الله وخالفوا الهوى وهم قادرين على اتباعه، سبعة آثروا رضا الله فيرضيهم الله ويظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
متن الحديث
عن أبي هريرة –رضي الله عنه وأرضاه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) متفق عليه، وهو من الأحاديث الواردة في صحيحي البخاري ومسلم.
وفي هذا الحديث بيان بأصناف الناس الذين يظلهم الرحمن بظله، يوم القيامة ويصطفيهم برحمته ويخفف عنهم أهوال ذلك اليوم، وهنا سوف نفصل وصفهم وأهمية تلك الطاعات في ميزان الله عز وجل، ليكافؤهم الله بهذا الفضل العظيم في ذلك الموقف العصيب.
الإمام العادل
العدل صفة من صفات الله، وهو عماد من أعمدة صلاح الكون، فمن مكنه الله في الأرض وجعل له سلطانا، وصلاحية لتوزيع أرزاق الناس والتحكم في مصائرهم وتولي شؤونهم والقيام على أمورهم، فهو بين أمرين أن يطيع داعي الجشع والتملك والتلاعب بمقدرات الخلق، فيظلم ويفسد في الأرض، أو يجيب داعي الله ويلزم عدل الله في أقواله وأفعاله وحكمه بين الخلق وفي جزائهم وعقابهم ومنحهم ومنعهم أيضا، فإن كان من الصنف الأول، فلينتظر وعيد الله له ويتبوأ مقعده من النار، يقول تعالى: (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه…)، أما إن كان من الصنف الآخر فليبشر برحمة الله وظله ولطفه يوم الفزع الأكبر، هذا وقد خص الإمام أو الحاكم أو القائم على شؤن الناس لأن ولى الأمر يقدر على الظلم ويملك أدواته، ولأن العدل منه أنفع وأبلغ أثرا عليه وعلى غيره، والظلم منه أفدح وأشد ضررا.
شاب نشأ في عبادة الله
الشاب الذي ينشأ في عبادة الله ويتربى على طاعته ومراقبته ويداوم على فعل الخير ويتصف به، يحبه الله ورسوله ويكون من أهل الله وخاصته، حتى إن زلت قدمه أو وقع في ذنب فهو سريع التوبة حريص على العودة لله.
رجل قلبه معلق بالمساجد
هذا التعبير كناية عن التزام الرجل بالصلاة وحرصه على أدائها في المسجد في جماعة، وهذا عمل من أحب الأعمال إلى الله، وإقامة لركن من أركان الدين، فالمتعلق بالمساجد رجلا يحب الصلاة ويقيمها على الوجه الأكمل، وتنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر، لذا اختصه الله بهذا العطاء الكبير!
رجلان تحابا في الله
الحب في الله أن تحب المرء لا لشيء إلا الله، فتحبه لصلاحه، وتتقرب منه وتحسن إليه بلا نفع ترجوه أو مسألة تسعى إليها، وهذا من الحب الذي يقوي رباط الأخوة وينشر السلام في أنحاء المجتمعات!
رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فامتنع عنها
مخالفة الإنسان لرغباته وعدم الانقياد وراء شهوته في لحظة تتوفر فيها كل عوامل الزلل، وتعرض عليه المعصية على طبق من ذهب درجة من درجات الإيمان العالية جدا التي لا يبلغها إلا نبي أو صديق أو قلب أخلص لله فيمده بمدد من العون والمقاومة للسقوط في هاوية الذنب ويهديه إلى اختيار جانب الله، ولأن الله وحده العالم يما يعتمل داخل قلب الإنسان وما يحل به من الصراع بين الحق والباطل وما تزينه له نفسه، فقد خص الشخص الذي يقوى على اجتياز هذا الامتحان الصعب، بأن يظله في ظله يوم يتهافت الخلائق على ظل يخفف عنهم حر يومهم الطويل فلا يجدون، إلا من رحم الله!
رجل تصدق سرا
صدقة السر من أعظم القربات وأحبها إلى الله، لاشتمالها على أمرين أولهما: أنها من باب جبر الخواطر وعون المسلم للمسلم، وقضاء حاجاته، وثانيهما: أنها سرية خالصة لله لا يرجى من وورائها مدح ولا شكر ولا تشوبها شائبة الرياء أو النفاق.
رجلا بكى في خلوته من خشية الله
إن الله حرم على النار أن تمس عين بكت من خشية الله، فإن كان بكاؤها في خلوة فهو قمة العبودية والإخلاص، ومظنة الصدق، إذ لا يحمل عليها أمر سوى ذلك، ولا يبتغى بها سوى قرب الله ورحمته!
فيارب علمنا ما ينفعنا واجعلنا ممن تظلهم في ظلك، يوم لا ظل إلا ظلك!!