«منى» تسأل: تعرفت على شاب عن طريق الإنترنت بهدف الزواج، وتم التقابل في الحقيقة أكثر من مرة لمعرفة بعض في الحقيقة وإزالة أي تأثير أو سماح بمخيلات من الإنترنت. تمت مناقشة مواضيع كثيرة تتعلق بظروفنا الاجتماعية والمادية ومصير العلاقة المستقبلية معاً. وجدت في نفسي ميلاً كبيراً له، وهو أيضاً لاحظ نفس الشيء.
استمرت علاقتنا مدة شهرين للتعرف على بعض أكثر، وبعد اقتناع تام بضرورة الزواج اتفقت معه أن يأتي لخطبتي من أهلي.. هذا الشخص متزوج ولديه طفلان، ولكنه يريد الزواج مرة أخرى؛ لأنه يريد أن يحصن نفسه بالحلال ويغض بصره عن الحرام؛ حيث إن الشرع يجيز تعدد الزوجات إذا كان الزوج لديه القدرة المادية والاستعداد للعدل، وقد لمست هذه المواصفات في هذا الرجل؛ وهو ما أدى إلى تعلقي به بشدة، والدفاع عنه أمام أهلي في محاولات إقناعهم.
كان وجه اعتراض أهلي الوحيد أنه متزوج، وأنه من جنسية مختلفة، ورغم محاولات إقناع مضنية منهم بالعدول عن زواجي منه فإنهم وافقوا على الخطبة، ولكنهم أثقلوا على خطيبي بأعباء مادية لم ينص عليها الشرع كمحاولة لصرفه. استمررت أنا وخطيبي في علاقتنا لدرجة أغوانا فيها الشيطان وأخطأنا، ولكني ما زلت عذراء. أهلي ما زالوا عند موقفهم، ونحن نريد التكفير عن ذنبنا وعصمة أنفسنا بالزواج من بعض؛ حيث إن كلانا مهم في حياة الآخر، وممكن أن نضيع إذا لم نتزوج.
الزواج في البلد الذي أقيم فيه لا يتم إلا بموافقة الولي، وهو ولي مستبد في رأيه.. فما العمل؟
الإجابـة
الأخت الكريمة: سعدنا برسالتك؛ لأنها تفجر عدة أمور على جانب كبير من الأهمية:
* الأمر الأول الذي تثيره رسالتك هو أمر إصرار الأهل على رفض من يرتضيه الأبناء شريكا للحياة، والأهل في موقفهم الرافض هذا يتحركون من منطلق حرصهم على مصلحة الأبناء، وخوفهم من عاقبة سوء الاختيار على فلذات الأكباد، ولكن مكمن الخطورة في هذا الرفض أنه يجعل الأبناء يغضون الطرف عن أي عيوب بادية وظاهرة في المحبوب؛ كما يدفعهم لمزيد من العناد ومزيد من الإصرار على المضي قدما في مشروع الارتباط أو التورط في ممارسات لا يرضى عنها الشرع. إصرار الآباء وتعنتهم يعطي لهذا الحب قداسة، ويشعر الأبناء أنهم يخوضون جهادا في سبيل الحب، وأن هذا الجهاد لا بد أن يُتوج بالنصر بغض النظر عن التضحيات التي تُقدم في سبيل الوصول إلى هذه الغاية.
ولو أدرك الأهل هذه الحقيقة، وتعاملوا معها من منطلق حديث رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: “لاعبه سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا، ثم اترك له الحبل على الغارب” فإنهم حتما سيخففون من غلوائهم؛ وسيسلكون مسلكا آخر يناقشون اختيار الأبناء بموضوعية؛ يحاورونهم ويبصرونهم بالميزات والعيوب، ويوضحون لهم عواقب هذا الاختيار، فإذا وجدوا إصرارا وتصميما من الأبناء بعد ذلك؛ تركوا لهم الأمر، وسمحوا لهم بخوض غمار الاختيار على أن يتحملوا عواقبه ونتائجه، وكل تجارب الحياة -حتى ولو كانت مؤلمة- فإنها تكسب معايشها نضجا وحكمة وخبرة عملية تمكنه من التعامل مع المشاكل المشابهة في المستقبل، وعلماء التربية يحذرون دوما من إحاطة الطفل بسياج من الممنوعات لحمايته، ويحبذون تركه يمارس الخبرات المؤلمة التي لا تؤذيه إيذاء شديدا حتى لا يقتلوا روح المغامرة والإبداع عند الطفل، هذا عن الطفل.. فما بالنا بالابن الراشد؟!
* الأمر الثاني يتعلق بإرهاق العريس بالمطالب المادية؛ لأن المهم أن يكون عش الزوجية قصرا فخما مجهزا بكل الكماليات وأساليب الرفاهية؛ وهو ما جعل أمر الزواج الآن شبه مستحيل أمام الكثير من الشباب، فهل هذه المطالب والأمور المادية ووسائل الرفاهية المختلفة هي التي توفر أسباب السعادة؟
لقد رأينا أمثلة كثيرة لبيوت كالقصور، ولكنها قصور باردة لا دفء فيها ولا مودة ولا سكن، يجأر قاطنوها من التعاسة، ووجدنا غيرهم يعيشون في بيوت متواضعة، ولكن الحب والمودة والسكن يظلل من يسكنونها؛ فيشع سعادة وبهجة على الأسرة كلها، وأذكر وأنا طفلة صغيرة فرحتي وسعادتي كلما نجح أبواي في شراء جهاز كهربائي جديد أو ما شابه، وأذكر سعادتي وشعوري بالمسئولية وأنا فتاة أدبر من مصروفي القليل لأعطيه كمساهمة لوالدي حتى يشتري ما ينقص البيت أو يجدد شيئا فيه؛ فلماذا نُصرّ على حرمان الصغار من هذه المتع الصغيرة؟
كما أن هذا التعنت وهذه المبالغة في المطالب المادية تورث نوعا من الكراهية بين الطرفين؛ فإذا تم الزواج حمل الزوج معه ميراث سنوات من المعاناة، ويصبح من الصعب عليه أن يصفو ثانية لمن تعنت معه من أهل زوجته.
* الأمر الثالث، وهو أهم أمر تثيره رسالتك؛ لأنه خاص بك وبكل فتاة مثلك يطرق الحب قلبها ويملك عليها أمرها، ثم تواجَه برفض الأهل.. فما هو التصرف الأمثل في مثل هذه الأحوال؟
هل الحل أن تهرب مع الحبيب لتتزوج بعيدا عن الأهل وبدون موافقتهم؟ وماذا لو حدث خلاف مع الزوج؟ من سيقف بجانب الزوجة ليدعمها ويساندها؟ وماذا لو تعرض الزوجان لضائقة ما.. من سيهب لمساعدتهما ونجدتهما؟ إننا نحتاج للأهل كشبكة داعمة لنا في جميع مراحل حياتنا، ونحتاج لهم كمصدر للحب والحنان لنا ولأولادنا، فلماذا نخسرهم في لحظة تهور؟
هل الحل أن تسلم نفسها للحبيب؟ وماذا تبتغي من وراء ذلك؟ هل تنوي بذلك أن تضغط على الأهل مثلا؟ ألا تعلم كل فتاة أنها تفقد احترام الرجل الذي سلمت نفسها له قبل الزواج، وأنه عادة يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على الارتباط بها؛ فمن يضمن له أنها كانت خالصة له دون غيره؟! فإذا تزوجها بدافع الحب أو بدافع الحرص على إصلاح ما ارتكبه من خطأ فإنه يظل يلاحقها بشكوكه وظنونه، ويقتلها بغيرته الشديدة عليها، ويحسب عليها نظراتها وحركاتها وأنفاسها.. فهل تتحملين ذلك؟
هل الحل أن تسلك مسلك بعض فتياتنا الآن فتسلم نفسها للحبيب، ولكن بحرص؛ فتحفظ نفسها عذراء حتى لا تواجه برفض المجتمع؟ هل العفة غشاء إن ظل مكانه كانت الفتاة عفيفة، وإن تهتك فقدت الفتاة عفتها، فإذا كان الأمر كذلك فلتفعل المتزوجة (سواء كانت مع زوجها أو كانت مطلقة أو أرملة) بنفسها ما تريد؛ لأنها لا تخاف أن تفقد شيئا ووسائل منع الحمل كفيلة بمنع الفضيحة، وليفعل الرجال بأنفسهم ما يريدون، كلامي هذا موجه لك ولكل من تسول لها نفسها أن تسلك هذا المسلك لتتحدى المجتمع.
الأمر أكبر من ذلك بكثير؛ أمر العفة سر بين المرء وربه مهما خدعنا البشر، وهو سبحانه مطلع على السرائر، وسنقف أمامه جميعا حفاة عراة ليس بيننا وبينه حجاب ليحاسبنا على تفريطنا وعلى خداعنا وعلى نفاقنا ما لم نسرع بالتوبة والندم على ما اقترفناه؛ فمن هان عليها هذا الموقف فلتفعل بنفسها ما تشاء، ومن تحسبت لهذا الموقف فلتضع مراقبة الله سبحانه -قبل مراقبة المجتمع والناس- نصب عينيها، وما أجمل فعل الزوجة التي كانت تشعر أنها خانت زوجها وحبيبها إذا نظرت مجرد نظرة لغيره؛ فتهرع إلى خالقها تستغفره.
وما أروع قول إحدى صديقات الصفحة، وهي تصف حالها وشعورها بعد أن تورطت في جريمة الزنا، فقالت: “هذا الفعل سلبني أعز ما أملك –ليس بكارتي-، ولكن الحاجز الذي بيني وبين الله”، وتقول أيضا: “إنها تشعر أن جلد وجهها ينتزع من مكانه وهي ساجدة بين يدي الله”، فأين أنتم من ذلك؟ هل تشعرون أنت وخطيبك هذا بالندم على جريمة الزنا التي تورطتما فيها؟ إن إصلاح الخطأ الذي حدث بينك وبين هذا الخطيب لا يكون إلا بالندم على ما فعلتما، والبكاء بين يدي الله والتضرع إليه أن يغفر لكما، والتوقف تماما عن إتيان هذا الفعل والابتعاد عن مقدماته من خلوة ولقاءات منفردة.
هل تُراني قسوت عليك؟ معذرة أختي الحبيبة.. فقسوتي عليك وعلى من تحذو حذوك من الفتيات دافعها الحب والخوف، ودعاؤنا لكم ليل نهار أن يُرزق شباب وفتيات المسلمين العفة.
فما الحل إذا مع أهلك؟ أنت تقولين: إنك لست الفتاة القاصرة، وإنك قادرة على تصريف أمورك؛ فهل تعجزين عن محاولة إقناع الأهل بالحوار المنطقي؟ وهل تعجزين أن تتخيري من رجال العائلة أو نسائها أو من الأصدقاء من يمكنك إقناعه باختيارك، ومن له قدرة على التأثير على وليك بحيث يوافق على أمر الارتباط، وأن يخفف من غلوائه في أمر المطالب المادية؛ لأنها لا تجلب السعادة؟ وهل تعجزين أن تتحدثي مع أمك وتقنعيها باختيارك وتكسبيها في صفك؟ وهل تعجزين أن تطلبي من الله بصدق أن يجمع بينكما في الخير، والله سبحانه مجيب الدعوات؟ وهل تعجزين أن تساعدي هذا الخطيب في توفير بعض مطالب الأهل، وعندك -كما تقولين- دخل ثابت تنفقين منه على نفسك وعلى أمك؟
والخلاصة أن هناك الكثير مما يمكن فعله، ولكن حتى تحققي مرادك عليك أن تتجنبي الخلوة بهذا الخطيب، وأن تتجنبي اللقاءات المنفردة معه؛ فهو أجنبي عنك حتى تتزوجا.
ما أود أن ألفت نظرك إليه أخيرا أن هذا الخطيب له عيوبه؛ فلا بد أن تتنبهي لها جيدا، وتنظري إليها بعين العقل قبل النظر للمميزات، هذا الخطيب أيضا من جنسية مختلفة وله ولأهله طباع وعادات تخالف ما درجت عليه؛ فهل عندكم من المرونة ما يكفي للتعايش والتعامل مع هذه الاختلافات؟ لا بد أيضا أن تتحسبي أنت وهو لموقف زوجته الأولى، كما أنك ستكونين زوجة ثانية، ولزوجته الأولى وأولاده منها حقوق؛ فهل ستقبلين بنصف زوج ونصف أب لأولادك في المستقبل القريب؟ وهل عنده القدرة فعلا على إدارة بيتين، وتحمل مسئولية زوجتين وأطفال من كل زوجة؟
أختي الحبيبة.. الخلاصة أن عليك أن تتحسبي لأمورك جيدا بعيدا عن اعتبارات العاطفة، ولا تنسي أن تستخيري المولى –عز وجل-، ونتمنى أن نسمع منك قريبا ما يثلج صدورنا، ويقر أعيننا بالاطمئنان عليك.
⇐ هذه أيضًا بعض الاستشارات السابقة:
- ↵ شاب محبط من خطيبته: هل أفسخ الخطوبة أم أُقنع نفسي بها؟
- ↵ هل أتزوج غير المحجبة؟ صراع بين الواجب والحب
- ↵ قصة حب معقدة: مشاعر متذبذبة وخوف من المستقبل
⇐ أجابتها: سحر طلعت