عندما تموت الأم لا يعارض أحد زواج الأب، بل يسعى معظم من حوله لإقناعه بالفكرة، أما إذا مات الأب أو انفصل عن زوجته، لاسيما إذا كانت متقدمة في السن، فمسألة التفكير في زواجها تكون بعيدة عن الأذهان، بل قد تكون مستهجنة من غالبية أفراد المجتمع، خاصة أولادها والمحيطين بها، معتقدين أن نصيبها من العيش كامرأة لها حقوق ومتطلبات قد انتهى عند هذا الحد، على الرغم من أن الشرع لا يحرّم ذلك، بل حث على السعي في إعفاف المرأة حتى يتحقق لها السكن النفسي الذي تتجمع فيه السعادة كلها، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).
لن تعيش مع رجل آخر
(ص. س)، 35 عامًا، اختصاصي علاقات عامة، يرفض تمامًا مجرد التفكير في إمكانية زواج أمه بعد أن توفي والده، ويعلل ذلك قائلا: “رفضي ليس من قبيل الأنانية، وإنما بدافع حبي الشديد لها، فهي بالنسبة لي رمز كبير، وأعظم إنسان في حياتي، وليس من السهل أن أراها تعيش مع رجل آخر بعد وفاة أبي، الذي كان يعاملها بالحسنى، ويكن لها كل الحب والود، ولا أدري كيف سيعاملها هذا الزوج؟ فقد كبرنا في ظلها، وكانت بالنسبة لنا الحصن المنيع، ومن واجبنا أن نرعاها ونلبي طلباتها ونكون بجوارها، ولا نجعلها تحتاج لغيرنا حتى لو كان زوجًا”.
وهنا تقرأ: جواز KG 1 — العروس والعريس يعبران عن اضطرابهم تجاه المرحلة الجديدة
كلام الناس
أما (ن.ك) 32 عامًا، موظفة، فلا تجد غضاضة في زواج الأم بعد أن تؤدي دورها في الحياة تجاه أبنائها، لاسيما إذا كانت تعيش بمفردها ولا تجد من يهتم بأمورها، وتذكر أن والدها قد انفصل عن أمها منذ فترة طويلة، وكرَّست الأم حياتها لتربيتهم، تقول الابنة: “هناك هاجس يساورني دائمًا، وهو ماذا ستفعل أمي بعد أن يذهب كل منا في طريق حياته؟ هل ستبقى في منزلها وحيدة وتحرم من العيش كإنسانة؟ من حقها أن تحيا حياة طبيعية.. تجد من يساندها، خاصة في هذه المرحلة من العمر، وقد عرضت عليها فكرة الزواج، وأظن أن هذا رد لجميلها، لكنها أبت خشية القيل والقال، على الرغم من أن أبي اقترن بأخرى، ويعيش حياته بكل يسر وسهولة.
لا أجد مانعا
أما (ل.ش) ربة منزل، في الثلاثينيات من عمرها، فتروي: “أبي توفي منذ فترة طويلة، وترك أمي في سن صغيرة، وقد عكفت على تربيتنا والحمد لله أكملت رسالتها في الحياة؛ حيث تزوجنا جميعا، وفضَّل اثنان من إخوتي العيش في الخارج؛ نظرا لطبيعة عملهما وظروف إكمال دراستهما، وأصبحت أمي وحيدة، على الرغم من أنها لا تزال تتمتع بالصحة والعافية”.
وتضيف: “عرضنا على أمي أن تتزوج حتى تجد من يؤنس وحدتها، لكنها رفضت، خشية من نظرة المجتمع لها، وألا توصف بعدم الوفاء لزوجها والحفاظ على سمعة أبنائها، وآثرت أن تضحي بسعادتها من أجلنا، وعن نفسي لا أجد مانعا في زواجها، بل عرضت الأمر عليها أكثر من مرة لكنها ترفضه رفضًا تامًّا.
وتتمنى (ل.ش) من المجتمع أن يلتفت لهذه الفئة، وينظر إليها نظرة عطف وحنو، لا نظرة جلد وقسوة بحجة العادات والتقاليد.
احموها من الاكتئاب
الدكتور أيمن بدوي، اختصاصي الطب النفسي بمستشفى السعودي الألماني بجدة، يؤكد أن المرأة بصفة عامة مرهفة الحس والمشاعر، ووجود الرجل في حياتها يمثل لها دعمًا نفسيًّا وإحساسًا بالأمان، وكل الدراسات التي أجريت على الأمراض النفسية ومنها الاكتئاب والقلق والفصام، أثبتت أن غير المتزوجين أكثر عرضة لها من المتزوجين، وتكون المرأة التي توفي زوجها أو انفصل عنها، وتقدم بها العمر، وتعيش وحدها عرضة لهذه الأمراض أيضا.
ويشير بدوي إلى أن الزواج في تلك الحالات مفيد جدًّا من ناحية الصحة النفسية، خاصة إذا كان الشخص مناسبًا من ناحية السن، وأن حياة المرأة بمفردها تسارع بظهور علامات الشيخوخة، وتعمل على تدهور حالتها الصحية بصفة عامة.
وعن الأثر النفسي لزواج الأم على الأولاد، يعلق اختصاصي الطب النفسي قائلا إنه يختلف من شخص لآخر، وليست له قواعد محددة، ويتحكم في ذلك تفهم الأبناء لحالة والدتهم، ومدى احتياجها للزواج، وكذلك وضع زوج الأم نفسه من حيث التكافؤ في السن والحالة الاجتماعية، ومدى تقبلهم له.
ويطالب الدكتور أن نزن هذه الأمور بميزان الشرع وليس بميزان العادات والتقاليد والوضع الاجتماعي.
الشرع يؤيد
من جانبه، يوضح فضيلة الشيخ سعيد بن عبد الباري، إمام وخطيب مسجد سعد بن أبي وقاص بجدة، أنه ليس هناك ما يحرِّم زواج المرأة الكبيرة في السن، سواء كانت تعيش وحدها أو مع أبنائها، والمتتبع لسيرة الصحابة —رضي الله عنهم وأرضاهم— يلاحظ أن المرأة إذا توفي عنها زوجها أو طلقت تجد من يتقدم لخطبتها، ولا ضير في ذلك، فها هي أسمـــاء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب —رضي الله عنه— حينما استشهد زوجها جعفر في غزوة مؤتة، تزوجها أبو بكر الصديق وبقيت عنده إلى أيام خلافته، ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب —رضي الله عنه— بعد ذلك.
وفيما يخص ممانعة الأبناء لتلك الزيجات بدافع الغيرة على أمهاتهم، يقول عبد الباري: “ليس لهم الحق في ذلك، بل الواجب عليهم السعي في إعفافها إذا كانت في حاجة إلى إعفاف، أو تحتاج إلى من يؤنس وحدتها، قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) [الإسراء 23، 24].
ويشدد الشيخ سعيد على أهمية ألا تحكمنا الأعراف التي تخالف الشرع، فالعرف —على حد قوله— قد يراعَى إذا لم يخالف الشرع، أما إذا خالفه فلا قيمة له في الإسلام، ويذكّر كل من ينظر لزواج السيدة كبيرة السن نظرة إنكار بأن الأقدار بيد الله، ولا يعلمها إلا هو، فكل واحد منَّا معرض لظروف قد تقلب أمور حياته رأسا على عقب، فيجب أن نتقي الله في أنفسنا وفي أهلينا، ولا نجعل من ألسنتنا سياطا نجلد بها الآخرين، بل من واجبنا أن نسعى لمساعدة الناس، وإسعادهم قدر المستطاع.
كما تقرأ أيضًأ: سنوات الزواج الطويلة.. لماذا تهرب منها الزوجات؟
لماذا نتركهن للوحدة؟!
من جهتها، تعتبر سناء وليد، مدربة تطوير الذات ومستشارة العلاقات الأسرية بمركز إيلاف للاستشارات الاجتماعية والتربوية والتعليمية والعلاقات الزوجية والأسرية بجدة، أن المرأة كلما كبر سنها كلما كانت في حاجة إلى من يرعاها ويهتم بها، وأنها إذا وجدت من يخفف عنها وحدتها شعرت بالأمان والطمأنينة.
وتتساءل: “ما المانع أن تتزوج المرأة في تلك السن من شخص كفؤ لها، يشاركها أفراحها وأحزانها، ويعيد الثقة لها؟!! مؤكدة أن في ذلك نوعًا من التكافل الاجتماعي الذي حث عليه الإسلام.
وتحث الاستشارية الأسرية الأبناء على السعي لتزويج المسنين والمسنات؛ لما في ذلك من فائدة نفسية واجتماعية من عدة نواحٍ، كأن يحس الفرد أنه لا يزال مرغوبًا فيه، وله دور فعال في المجتمع، موضحة أن هذه الخطوة تخفف من انتشار دور العجزة والمسنين، وتساعد على تكوين أسر متكافئة ومتكافلة، مستشهدة بحالة عايشتها بنفسها لامرأة طُلِّقت في الخمسين من عمرها، وظلت فترة ليست بالقصيرة ترعى أبناءها، وفوجئت بهم بعد أن سلك كل منهم طريقه يباركون زواجها، مؤيدين ذلك بشهادة أحد أبنائها على عقد القران.
تحقيق/بقلم: صلاح سالم