امرأة… وأربعة رجال.. في جزيرة مسحورة.. فيها شجرة تفاح.. وجمجمة.. بهذه المفردات – غير العادية – يغزل الكاتب الساخر محمد عفيفي روايته “التفاحة والجمجمة”، هذه الرواية التي قد تبدو للوهلة الأولى فكاهية تماما لما فيها من مفارقات وأسلوب ساخر تميز به، لكنها في الحقيقة رواية فلسفية ذات رموز عديدة مثل سائر أعماله.. إنها تاريخ الإنسانية كلها ممثلا في نزاع على السلطة والمرأة.. شرعية القوة العضلية أو المسلحة (في تطور يماثل تاريخ البشرية: الخنجر ثم المسدس).
السلاح ينتقل من يد إلى يد والكل يستخدمه بلا روية، فظاظة القوة والجبروت المتمثل في استعباد الإنسان، ثم يكون النصر للعقل لا للقوة الغاشمة على يد أضعف المتنازعين جسدا وأذكاهم عقلا: المهندس أحمد الذي يظفر بالسلاح والمرأة الوحيدة في الجزيرة، بل ويهتدي إلى الوسيلة المناسبة لمغادرة الجزيرة.. كل هذا بفضل العقل.
طبعا لم تفهموا شيئا حتى الآن، لذلك دعونا نحكي القصة من البداية، لكن لا تنسوا من فضلكم – بعد انتهاء المقال – قراءة هذه الفقرة من جديد.
زازا والجزيرة المسحورة
المرأة في هذه الرواية هي زازا الحسناء اللعوب كثيرة العشاق.. الأنثى البدائية قبل الأديان والأخلاق، التي تمنح نفسها لأي رجل يمنحها المتعة والخصوبة دون أي قيم أخلاقية.. يتهافت الرجال عليها، تأسرهم بحسنها البديع، بشعرها الذهبي وعينين هما مزيج من الأخضر والأزرق، ذكية سريعة البديهة خفيفة الظل.
والرجال: أحمد، مهندس السفن لطيف الفكاهة، ضعيف الجسد يقضي معظم وقت الرواية جاريا وهاربا من مشاجرات الرجال الأشداء.. توتو مجهول الجنسية، مفتول العضلات، والوحيد الذي يجيد اصطياد السمك بخنجره الخاص.. وهناك المعلم طلبة.. رجل أربعيني دسم المحفظة، يمثل سلطة الدين والمال، مصدر قوته دفتر شيكات ومسدس ضخم وتابعه المخيف كرشه الذي هو عبارة عن كتلة بدائية من العضلات أشبه ما يكون برجل الكهف بفك الغوريلا وعينيه الضيقتين الغبيتين وطريقة نطقه المشوهة للحروف.
أما مسرح الرواية فهو تلك الجزيرة المنعزلة التي وصل إليها أحمد وزازا سباحة بعد غرق السفينة.. تم التعارف بينهما في البحر بعد أن أوشك على الغرق.. أمسك كلاهما بقطعة خشب طافية.. وفي ضوء القمر على مقربة من سفينة غارقة تم أغرب تعارف يمكن تخيله بين رجل وامرأة، لم ينس كلاهما –رغم الخطر المحدق– أنه رجل وأنها امرأة..
في الجزيرة المنعزلة التي يحوطها الأزرق من كل اتجاه عاشا حلم العشاق الأزلي منذ أن وجد هذا العالم.. جزيرة صغيرة جدا لا تزيد مساحتها عن فدان، فيها عين مياه وشجرة تفاح وكوخ صغير خال وجمجمة بشرية قديمة (وهو اسم الرواية: التفاحة والجمجمة، رمز الحياة ورمز الموت).. هناك أشياء عجيبة جدا لاحظها أحمد منذ الوهلة الأولى: الجزيرة مسحورة ولها زمنها الخاص، الساعة تدور عقاربها بسرعة جنونية ولحيته تنمو في لمحة بصر، وشجرة التفاح تطرح في ساعتين.
لحظات بدائية
بعد قليل يظهر توتو على مسرح الجزيرة، شاب برونزي، مفتول العضلات، فاحم الشعر، كان رفيق زازا على سطح السفينة قبل غرقها، لذلك كانت فرحتها بنجاته مفهومة، أما أحمد فكان من الطبيعي أن يشعر بالبغض الشديد: امرأة واحدة ورجلان!!.. الرجل للرجل إما صديق مقرب أو منافس مرعب.. ولولا الحكمة التي أخبرته أن الهجوم عليه معركة خاسرة، هكذا تجري الرواية في أشد لحظات التاريخ بدائية.
بنظرة تقطر مرارة وحسدا يرمقهما وهما يضحكان ويبتعدان.. زازا اللذيذة التي خطفها الوغد خطفا وصارت ملكا له.. حينما نام العملاق شعر برغبة عارمة في انتزاع الخنجر منه مهما كانت المخاطر.. كان بحاجة لأن يثبت لنفسه – ولزازا – أنه ليس جبانا إلى هذا الحد.. بيد أنه حينما تمكن من سلب خنجره وأصبح في موقع القوة لم يفكر قط في طعنه فهو لم يكن بالرجل الذي يقتل تحت أي ظرف.. كان سعيدا –كالأطفال– بنجاحه في المغامرة.. سرور صبياني خالص يتراقص في صدره.. حلق لحيته وشذب أظافره ثم غرس الخنجر في الرمال على مقربة من العملاق النائم الذي استيقظ فجأة وتحسس خنجره فارتسم الفزع في عينيه.. وسرعان ما تلفت حوله وأبصر الخنجر عن مقربة وفهم كل شيء.
ابتسم له العملاق في ود، زازا أكبرته لجسارته ومروءته.. موجة سعادة غمرت الثلاثة معا فراحوا يضحكون بلا سبب.. وفجأة إذ بشيء في البحر يقترب: لم يكن غريقا واحدا وإنما اثنان: الحاج طلبة حسنين وكرشه ينضمان إلى مجموعتهما الصغيرة.
الزواج للأقوى
منذ اللحظة الأولى فرض الحاج طلبه نفسه زعيما عليهم بمسوغات ليست أقل من دفتر شيكات ومسدس أسود قبيح، وتابعه كرشه المستعد لتنفيذ أوامره قبل أن ينطق بها.
وتبدأ رحلة السيطرة: زازا ترتدي جلباب كرشة الخشن لتستر جسدها المكشوف بفستان نوم بمبي رغم تمردها واحتجاجها، توتو يتم إجباره على صيد السمك بالقوة الممثلة في المسدس الوحيد الذي يملكه الحاج طلبه.. بعدها يبدأ صراع محتوم على الأنثى الوحيدة في الجزيرة.. توتو يقاتل كرشه.. كرشه يضرب توتو، أحمد يجري من هذا وذاك، والحاج طلبة يقرر الزواج بها فيذعن الجميع ولو على مضض، أما زازا الأنثى البدائية الخالدة فلا يهمها اسم الرجل، المهم السيطرة والخصوبة والإمتاع.
ولأول مرة يشترك كرشة مع توتو في شعور مشترك: الحقد، توتو كف عن الابتسام.. يطالع البحر بوجه عابس وهو ينشد أغنيته الغامضة.. راحت عليك يا توتو أيها التمثال البرونزي الجميل وراحت على الجميع.
جنون السلطة
وتبدأ محاولات صناعة المركب من خلال خبرة أحمد الهندسية، جذع شجرة يتم تفريغه بأدوات بدائية.. جرى العمل في بطء مميت، وتحدث المفاجأة الكبرى بتمرد كرشه على سيده القديم.
كرشه اتجنن، هكذا قالت زازا لأحمد، وبعد أن كان يغض البصر إذا شاهد زوجة سيده صار يحملق فيها بصفاقة ويبتسم ابتسامة لزجة.. بعدها جاوزت جرأته الحدود حينما راح يطرقع أصابعه ويتراقص قائلا “هظ يا وظ .. هظ يا وظ”.. كانت زازا معذورة في الضحكة التي أفلتت منها فقرصها في ذراعها!
كانت مفاجأة كاملة للحاج طلبة حينما تمرد عليه تابعه القديم.. لم تفته نظراته الطويلة المتحدية من خلال جفونه الثقيلة المتهدلة.. راح يحملق في دهشة وخوف.. وتحسس مسدسه الذي لم يكن يعلم أن زوجته أفرغته من الرصاص حقنا للدماء.. في النهاية اعتدى كرشة على الحاج طلبه حتى أغشى عليه ثم جذب زازا من ذراعها نحو الكوخ الوحيد، وهي تصرخ وما من مجيب.
العقل منجي
أفاق الحاج طلبة في الصباح، ما كاد يتذكر حتى جحظت عيناه وراح يطرق باب الكوخ الموصد ويصرخ في غل، لكن استهزاء كرشه جعله يجن ويحاول إحراق الكوخ على من فيه، ثم تنشب مشاجرة أخرى تنتهي بقتل كرشة هذه المرة، هكذا حدثت أول جريمة قتل في الإنسانية الجديدة والسبب.. امرأة أيضا!
انتقلت السيطرة على الجزيرة إلى توتو الذي تغير كثيرا، ذهبت ابتسامته الحلوة، واكتسى وجهه بقسوة غير مألوفة.. وحتى السمك الذي اصطاده بخنجره رفض أن يعطيهم ولو قطعة صغيرة منه.. لكن أحمد – بمساعدة زازا – استطاع سرقة المسدس وحشوه بالرصاص، ومن ثم انعقدت السيطرة له على المرأة والجزيرة.
وأصبح سبيل النجاة الوحيد هو إتمام صناعة المركب بجهد مستميت منذ شروق الشمس حتى غروبها لمغادرة السفينة، وجاء اليوم المنتظر.. اكتمل بناء المركب وركبوه جميعا فانزلقت على الماء برشاقة البجعة، تتهادى على إيقاع جميل من خفق الموج.. لكنها لم تفلح في مغادرة الجزيرة إذ كانت تصل إلى نقطة معينة ثم تعود إليها .. وكلما كرروا تجربة الابتعاد من الجزيرة أطاعتهم السفينة حتى تبلغ نقطة معينة فتعود للدوران والعودة إلى الجزيرة..
تلك المعضلة التي حيرته لأيام طويلة قبل أن يهتدي إلى الحل.. هذه التيارات المائية بعد أن تصطدم بالجزيرة تعود لتبتعد عنها في مسارات معاكسة.. وبذلك يصبح الحل أن تركب السفينة تلك التيارات المبتعدة عن الجزيرة حتى تأتي تلك اللحظة اللي تبتعد فيها عن جاذبية الجزيرة العجيبة.. بالعقل والتفكير العلمي تتم النجاة!!
وتستمر الحياة
ويكون المشهد الختامي هكذا: مركب صغير مضحك يتلمس طريقه في البحر الداكن العريض، ومن فوقهم ملايين النجوم المبعثرة في القبة السوداء.. ضآلة الإنسان وسط الطبيعة المهيبة وبلايين الأسئلة المحيرة، الساعة كفت عن سيرها المجنون المتسارع وعادت حركة الزمن إلى طبيعتها، زازا تعلن فجأة أنها حامل وستلد على ظهر المركب في إشارة واضحة إلى استمرار الحياة رغم المصاعب والأخطار.
⇐ طالع أيضًا هذه المقترحات: