طقسٌ ديني، ومجتمعي
رمضان ضيف عزيز له ميزةٌ في المجتمع لا يضاهيه فيها شهرٌ من الشهور؛ فهو الشهر الذي يتوافد فيه الناس إلى العبادة، تكفيرًا عن كل ما فاتهم، كأن شهر رمضان هو موسم التوافد إلى الله، والتضرع إليه – جل وعلا – بكل السبل تكفيرًا عن ذنوبهم، ويـأنسون بالقرآن في ليالي قيامه، والذكر لا يفارق ألسنتهم ما داموا في ساعات الصيام المباركة.
وأيضًا شهر يبدأ معه صلة الأرحام، والتجمعات العائلية، وتفاريح الأطفال في شوارعهم، والولائم التي لا تنقطع بين الأقرباء، وموائد الرحمن، التي تلمس الرحمة في نفوس الشعوب تجاه الفقراء.
وفي لمحة بسيطة عن الطقوس الإجتماعية في شهر رمضان، يقول الدكتور “مصطفى محمود”:
“رمضان شهر دين وشهر نزول القرآن وشهر صيام .. ولكنه في الشارع المصري شهر تفاريح. يهل رمضان على بلدنا فتتجاوب أصوات المآذن بنداء الله أكبر.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح.. وتسعى الأقدام في الفجر إلى المساجد.. لكن كالعادة كل سنة.. المناخ الإعلامي في عالم آخر كله تفاريح وفوانيس ورقص وطبل وزمر وفوازير.. والإعلانات الكبرى في الصحف عن الخيمة الرمضانية وليالي الأنس والسهرة الصباحي مع المشويات والشيشة والرقص البلدي والحلويات.. وتزدحم الشوارع بالناس ويقضي الصائم معظم وقته في النوم”.
مع قدوم الشهر التاسع من التقويم الهجري (رمضان)، يهب الناس استعدادًا له، وفرحًا به، وأملًا فيه. وإذا انتهى، في سرعة البرق، تعود الأيام إلى رتابتها المعتادة، ويعود كل ذي ذنب إلى ذنبه، وتتفكك أواصر الأقرباء إلى أن يعاود شهر الخير من جديد يلملم شتات المجتمع بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأقربائه.
إذا أتى رمضان، فيكون ترحيبه بالصوم
(شهر رمضان) له هيبة دائمة يعاود بها على الأمة، هو شهر كالضيف الخفيف، الذي يجلب معه كل المنافع والفوائد التي أنزلها الله على العباد، شهر يأتي إلى كل فرد، وكل بيت، وكل أمة، يعدهم بالعطاء من الله – تعالى – في مقابل القليل من أجل الله.
إذا أتى شهر رمضان، فإننا نصوم. ولكن، ما معنى الصوم تحديدًا؟
إن الصوم ليس صوم الجوف عن الأكل والشرب فقط، بل الصوم معناه أن يصوم المسلم عن كل ما يغضب الله، عن الإثم؛ عن النفاق، والكذب، والنميمة، وكل ما يعكر صفو صفحة المسلم عند الله.
الصوم معناه التوجه إلى الله بالعبادة الخاشعة، والتقرب إليه بالحفاظ على الصلاة في بيته، والدعاء إليه قبل الإفطار، والتضرع إليه في القيام، والحفاظ على صلاة الفجر. الصوم بتنقية القلب بقراءة القرآن، وانشراح الصدر بذكر الله.
شهر رمضان يأمرنا بلين القلوب، وصلة الأرحام، وإطعام المساكين والفقراء. لأنه بفرض الصيام من بعد الفجر إلى المغرب، يجعلنا نشعر بقليل من معاناة الفقراء، الذين عادةً ما نمر عليهم دون أن نعي شيئًا عن حالهم؛ ففطرة الإنسان أنه لا يشعر بغيره إلا إذا انتابه ما ينتاب غيره. وبمشقة الصيام، بالتوقف عن الأكل والشراب من الفجر إلى المغرب، يعاني الإنسان قليلٌ مما يعانيه الفقير، فيهرع إلى مؤازرته، والمشاركة في موائد الرحمن.
وذلك عدلٌ كبير من الله – سبحانه وتعالى – فبفرض الصيام، يبدأ التوازن بين الفقير والغني، والتوازن بين الإنسان ونفسه، والتوازن بين الإنسان وربه. فينشرح صدره، وينفك كربه، ويُكتب عند الله من الصائمين المؤمنين، وهو أجره عظيم.
شهر رمضان، وما في صُرُّتِهِ من العطايا
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من صام شهر رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه”.
والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق عن الهوى، ولا أظن أنه يوجد أجرٌ أعظم من أن يغفر الله للمؤمن ما تقدم من ذنبه، إذا صبر على صيام شهر رمضان، دون رياء، أو تقليد أعمى، لكن إيمانًا بعظيم أجر الله، وطمعًا فيه.
ولشهر رمضان فضائل كثيرة، وليست هينة، لا تتحقق إلا بالصيام بالآداب التي سبق ذكرها، عن طيب خاطر، وتقربًا لله – جل وعلا -، هذه الفضائل، إلى جانب مغفرة ما تقدم من الذنوب، أجملها في النقاط الآتية:
- في الصيام تمام الإسلام للمؤمن، لأنه ركن أساسي من أركان الإسلام، لا يكتمل إسلام المرء إلا به؛ لذلك هو فرض على كل مسلم، بالغ، عاقل.
- فيه تكفير عن ذنوب المسلم، فالمرء طوال أشهر السنة، يلتهي فيما افتتن به من الدنيا، المال، والأولاد، والزوجة.. وغيرهم. ويأتي شهر الصوم يكفر عن الرجل افتتانه من الدنيا.
- في شهر رمضان يصفد الشيطان، فيخلو الإنسان أخيرًا بنفسه وقلبه، يراجعهما، ويرى فيهما بوضوح القسوة التي غشيته طوال الأيام، القسوة على نفسه، وعلى قلبه، وكل من حوله، ومن ثم يتسنى له فرصة أن يطهر قلبه ويلينه، ويتقرب إلى الله بالتوبة النصوح الصادقة.
- في شهر رمضان تحقيقًا لتقوى الله بالصيام، فالمسلم أمام اختبار لمدة ثلاثين يومًا يقاس فيها تقواه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
- شهر رمضان يعلم المسلم درسًا متكررًا عن الصبر؛ الصبر على المعصية، والصبر على الطاعة.
- شهر رمضان يشد المسلم من يده، ويدخل به الجنة، يدخل به من باب خاص بالصائمين، باب من الجنة اسمه (الريان). وفي الصيام حماية للمسلم من المعاصي، والانجراف وراءها، وبذلك يكون من نصيبه الجنة.
- شهر رمضان يعطي هدفًا للمسلم، وعليه أن يحققه كل يوم، وفي تحقيق ذلك الهدف (الصيام) يشعر المرء بفرحة تحقيقه. في الحقيقة، هي ليست فرحة واحدة، بل فرحتين، فرحة قريبة، والأخرى بعيدة لكنها مضمونة – إن شاء الله -، الفرحة الأولى بانتهاء فترة الصيام، هي فرحة الصائم بإفطاره. والفرحة الثانية: بما يلاقيه عند الله – عز وجل – من عظيم الأجر والثواب في الآخرة.
في ليلة واحدة
اختص الله في شهر رمضان، ليلة واحدة، هي خيرٌ من ألف شهر، هي ليلة أُنزل فيها القرآن، ليكون هدى ونورًا للعالمين. ليلة تتنزل فيها الملائكة، وما تحمله من بركة ورحمة يضفونهما على الصائمين، والقانتين. انها ليلة القدر.
إنها ليلة نرقبها في العشر الأيام الأواخر من الشهر الكريم، فنستزيد في العبادة والابتهال طمعًا في نوال ثوابها، والنهل من بركاتها ورحمتها.
شهر رمضان فيه خير كثيرٌ وبركة، في كل جوانب حياة الفرد، في الناحية الروحانية، والنفسية، والصحية؛ فالصيام يدفع المرء لتهذيب نفسه عما يشوبها من القسوة والطغيان، فحاجة المسلم إلى الطعام والشراب، تجعل في قلبه اللين، ويدرك مدى حاجته إلى الله، ومن ثم يتفكر في النعمة التي بين يديه ويحمد الله عليها بالتسبيح والتكبير والعبادة.
ولا شك أن للصيام من الناحية الصحية، فوائد عديدة، فهو يحافظ على الجهاز الهضمي، ويعالج الأمراض الناتجة عن الهضم، فالصيام صحة.
وفي النهاية، شهر رمضان ضيفٌ عزيزٌ، يأتينا هدية من عند الله، يأتينا مرة كل سنة، حاملًا معه فرصة جديدة لكل العباد، من استطاع اغتنامها، عاش بصدر منشرح، وقلب وجل، وروح متعبد ناسك حتى تدور السنة ويأتينا الشهر من جديد، ونستقبله باشتياق وترحاب، آملين أن يكون العام كله شهر رمضان الكريم.