من فضائل شهر رمضان على النفوس، أنه يربيها ويهذبها، ويرتقي بها إلى مكارم الأخلاق السامية، فالصيام يربي النفس على الطاعة الصالحة، والهدوء النفسي، والبر والتقوى، بين الإنسان وربه، والإنسان ووالديه، والإنسان وأهله وأقاربه، والعطف على الفقير، والانتصار على ضعف النفس وشهواتها. كلها أخلاقيات يتحلى بها المسلم إذا التزم بها، وجاهد نفسه حتى يصل إلى مرتبتها.
ومن أهم الأخلاقيات الحميدة التي يرتقي إليها المسلم، ويتدرب عليها في رمضان أتم تدريب، وأحسن تربية، هو خلق الصبر، فشهر رمضان يعلم المسلم أول ما يعلمه الصبر، فهو يصبر على الصيام، ومشقته، ويعزم ألا يدخل جوفه شيء يؤدي إلى إفطاره، كما يعلمه الصبر على النفس وجهادها، والالتزام بالطاعات الواجبة، والسنن المفيدة التي ترتقي بالمسلم إذا أقامها إيمانًا واحتسابًا إلى مرتبة عالية عند الله “سبحانه وتعالى” والصبر صفة مطلوبة دائمًا في حياة كل الناس؛ الصبر يقي المسلم شر التأفف من البلاء، ويدفعه إلى الخشوع لله، وطلب العفو من الله، وأن يكشف عنه البلاء، حتى تزيح الغمة عنه. والصبر خلق يجعل المسلم لا يتجعل رزقه، لأنه موقنًا أنه ملاقيه يومًا دون سلوك سبل معوجة، أو دون أن يخالطه شك في رزق الله له، وغيرها من الأمور التي يفيد فيها تعلم الصبر، الصبر زينة القلوب، والعفة للعقول.
معنى الصبر
- إذا نظرنا في معنى الصبر، لغويًا، وفي الشرع، وجدنا أن المعنيين متقاربين؛ فالصبر في اللغة: معناه الحبس والمنع، وهو ضد الجزع، لذلك سمي شهر رمضان بشهر الصبر، لأن فيه حبس النفس عن الطعام والشراب والشهوات.
- وإذا نظرنا في معناه الشرعي، رأينا أن الصبر معناه: حبس النفس على ما تكره طلبًا لرضا الله؛ فالنفس مصائبها كثيرة، فإذا صبر الإنسان عليها، واجتهد في طاعة الله، إذا زلت قدمه عن طاعة الله، رجع وتبتل وتقوَّى بالله، فذلك معناه الصبر على ما في النفس من مكاره، ومعاودة تقويمها، وتأديبها.
- ومن معنى الصبر، نرى قيمته، فالصبر يشتمل “عادة” على القيم كلها والأخلاق جلها، فبالصبر، يتحلى المسلم بالتقوى والرضا، ويغلف قلبه السرور والغبطة، ولا يجزع أبدًا من محاولة الوصول إلى الله بالعبادة والطاعة، ومجاهدة النفس لفعل الخير.
- وشهر رمضان خير ما يربي فينا هذا الخلق الجميل، الذي يرتقي بالمسلم، إذا غرسه في قلبه، إلى مراتب عليا عند الله وبين الناس أجمعين، والرسول “صلى الله عليه وسلم” وصف شهر رمضان بشهر الصبر.
أنواع الصبر
والصبر الذي يربينا عليه صيام شهر رمضان، ثلاثة أنواع، هي خير القيم التي يمكن أن يتربى عليها المسلم الصائم، إذا التزم بها في نفسه، وإذا عزم على ألا يخرج من شهر رمضان إلا وهي مغروسة في قلبه. وأنواع الصبر هي:
أولًا: الصبر على الطاعة: فالمسلم مع مجيء أول ليلة من شهر رمضان، يبدأ في الطاعة المفروضة عليه، من إقامة الصلاة، بتروٍ وهدوء وخشوع، مرتلًا فيه القرآن على ما يجب أن يكون، ولا يغفل الأذكار المفروضة بعد كل صلاة، ويستزيد فيها أيضًا ما شاء، ولا يخرج من مكانه إلا وهو منتهي من تلاوة الورد المقرور له في القرآن الكريم محاولًا تدبره، ويتبتل إلى الله بالدعاء الذي لا ينقطع، ويترقب الأوقات المستحب فيه الدعاء والذكر حتى يهرع بين يدي الله ويردد ما يشاء من الأذكار، ويسمي حاجاته إلى الله بالدعاء.
ذلك “في بداية قدوم شهر رمضان” يحدث عادة، مع كل صلاة من الصلوات الخمسة، إلى جانب الالتزام بقيام الليل في المسجد حتى نهايتها.
وتمر الأيام عليه، قد تصل إلى العشر أيام الأولى، وهو ملتزم التزامه في أول رمضان، ومن ثم تبدأ عزيمته في الهبوط، ولا يطيق صبرًا أن يفعل كل ما كان يعزم عليه في بداية رمضان، ينتابه الخمول والكسل، ويؤدي الفروض كراهية وطواعية، حتى انتهاء شهر رمضان، ويدرك بعدها أنه ما جنى سوى القليل مما فُرض أن يجنيه في هذا الشهر الكريم وتكسل عنه.
ولكن إذا صبر المسلم، ووضع نصب عينيه الجزاء الكبير، والثواب الوفير الذي فضله الله به على سائر المخلوقات في هذا الشهر الكبير، وكان التزامه في شهر رمضان، أوله كآخره، في الطاعة والعبادة، والاجتهاد بالتبتل إلى الله والالتزام بأوامره، والابتعاد عما نهى عنه، والتقرب إليه بالقرآن، والسنة والذكر، والدعاء، فإنه يحقق بذلك ارتقاء بنفسه، وثقة كبيرة بنفسه لأنه استطاع أن يتغلب على مكارهها، ولا ينجرف لكسلها، ويخرج من شهر رمضان فائزًا على الجانبين النفسي والروحاني.
ثانيًا: الصبر على ترك المعصية: الصيام معناه أن ينقطع المسلم ويُمسك عن كل ما يُفطر ويغضب الله، فالمسلم لا يصوم عن الطعام والشراب فقط، بل إلى جانب الطعام والشراب يصوم عن الذنب، الكبير منه والصغير، والصيام يعلمنا الصبر على ترك المعصية والوقوف عنها، فمن كان يخالط قلبه ذنب، وعزم أخيرًا أن يقلع عنه متسلحًا بصيامه في شهر رمضان عنه، فإنه بالتزامه بهذا العزم والصبر عليه، يربي في نفسه خلق جديد، ويخرج من رمضان منتصرًا على ذلك الذنب، ومنتصرًا على وساوس الشيطان له لفعل ذلك الذنب.
والصبر على ترك المعصية بترك كل ما نهى الله عنه، من السب، النميمة، الكذب، الغش، الغضب، الجدال الدائم، اللهو فيما يغضب الله، السخرية.. وغيرها من الذنوب التي نهى الله عنها، كل ذلك إذا التزم المسلم بالابتعاد عنه في شهر رمضان، خرج منه سالمًا منتصرًا على تلك المعاصي، وقلبه متحليًا بالأخلاق السامية، والفضائل الجميلة، ويحظى بهدوء النفس وسموها فوق كل ما يغضب الله.
ثالثًا: الصبر على أقدار الله: فالجوع والعطش، وخاصة لمن يقضون النهار في أعمال شاقة، يولد ألمًا كبيرًا، وجزعًا لدى النفس يدفعها أن تستغني عن الصيام، وأن ترضي شهيتها. لكن من نظر إلى الصيام أنه مقدرٌ من عند الله، وصبر عليه ولم يجزع، وأمسك عن نفسه الطعام والشراب، ولم يذهب وراء شهيته، والتهى، إلى جانب عمله، بالذكر ولو حتى بالقلب، واستعان بالله، فذلك أجره عظيم عند الله، غير أنه يشعر بسعادة لا تضاهيها سعادة عند الإفطار، لأنه بذلك انتصر على نفسه، ولم يسلم نفسه إلى هواها، ولم ينجرف وراء ما تشتهيه.
تلك هي أنواع الصبر التي يربينا عليها الصيام، والهدية الغالية، والوسام الغالي الذي يتقلده كل من يعزم عليه من الصائمين، وينال به شرفًا كبيرًا عند ربه، وفي نفسه، وبين الناس كلها.
الصبر مقرونًا بالتقوى
على ذكر التقوى، جاءت آيات الصوم مقرونة بها، فمن أراد أن يتم صومه، عليه أن يتحلى بالتقوى، قال “تعالى” (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والتقوى تشمل كل الطاعات الواجبة على المسلم في شهر رمضان، من الالتزام بالصلاة، والصدقة، وقراءة القرآن، والذكر الذي لا ينقطع، وكل أعمال الخير والبر.
ومن أراد أن يلتزم بالتقوى فعليه أن يلتزم بالصبر، وأن يجعل الصبر على نفسه، وسيلة لبلوغ التقوى، التي تجعله بدورها يبلغ المراتب العليا والفضائل التي منَّ الله بها على العبد في شهر رمضان، قال “تعالى” (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ).