بهذا العنوان القويّ، المُبارَك، أتيناكم بخطبة مكتوبة ليوم الجمعة، تحت عنوان: رمضان شهر الانتصارات والفتوحات. وهي أحد الخُطَب المنبريَّة التي أعددناها لكم خلال الشَّهر الفضيل. فما أحوجنا إلى تذكير الناس بما كان فيه من بطولات انتصارات وفتوحات وإنجازات.
مقدمة الخطبة
الحمد لله، سُبحانه مُعِز المؤمنين، ومؤيد الصادقين الصابرين. وأشهد أن لا إله إلا الله، سُبحانه بيده الملك، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا وقائدنا، وأسوتنا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، واتبع سنتهم إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على الشهداء والمكلومين، والأسرى والمعتقلين، والراكعين الساجدين الصائمين، بالمسجد الأقصى المبارك، وفي كل بقعة من ديار المسلمين.
الخطبة الأولى
إن شهر رمضان هو شهر الانتصارات والبطولات والفتوحات فقد وقعت في رمضان أحداث عظيمة منها معركة بدر الكبرى وفتح مكة وعين جالوت وغيرها من الغزوات العظام مما يؤكد أن شهر رمضان هو شهر الجد والاجتهاد والصبر والمصابرة وليس شهر تكاسل وتقاعس، ففي السابع عشر من رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة حدثت أهم معركة في تاريخ الإسلام والتي سماها ربنا ﷻ يوم الفرقان قال الله ﷻ: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الانفال: 41، وسمي بيوم الفرقان لان الله ﷻ أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه ونصر نبيه ﷺ، وانتصر الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
لقد كانت هذه المعركة أول لقاء عسكري بين المسلمين وأهل الكفر من مشركي مكة، إنه يوم أعز الله رسوله ﷺ، ومنْ معه من المؤمنين على الرغم من قلة العدد، وضيق ذات اليد، قال الله ﷻ: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ آل عمران: 123، أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدة.
والحق الذي لا مِرية فيه أن غزوة بدر كانت بمثابة تحول تاريخي عظيم في مسيرة الإسلام والمسلمين، فأصبح المسلمون مهابي الجانب قال الله ﷻ: ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾ الحشر: 13، وقد كان النبي ﷺ يدعو الله ﷻ ليلة المعركة بالنصر، عن عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم اجمعين قائلاً «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ…» ← رواه مسلم.
وقد استجاب الله ﷻ لنبيه ﷺ هذا الدعاء قال الله ﷻ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ الانفال:9.
إن هذه البشرى والنصر والتأييد من الله ﷻ بعد الأخذ بالأسباب، قال الله ﷻ: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ آل عمران: 126.
ومن الغزوات التي حدثت في رمضان غزوة الفتح العظيم، فتح مكة، سيد الفتوحات، هذه الغزوة المباركة التي وقعت في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة.
لقد كانت هذه المعركة مثالاً للتسامح والرحمة الإنسانية من نبي الرحمة ﷺ، وكان سببها أن قريشاً نقضت عهدها مع رسول الله ﷺ، فجهز جيشاً قوامه عشرة الاف مقاتل لا يرى منهم الا الحدق من شدة ما عليهم من الدروع لإغاثة المظلومين الذين قتلوا بغير حق، حيث جاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي ﷺ قائلاً:
يَا رَبِّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدَا
ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا
وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا
إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُوَكَّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا
وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فقال له النبي ﷺ “نُصرت يا عمرو بن سالم”.
فدخل النبي ﷺ مكة راكباً على راحلته متواضعاً متذللاً لربه ﷻ وهو يردد قوله ﷻ: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ الاسراء: 81، فرفع قول الله أكبر في جنبات مكة المكرمة وصدع صوت الحق ودان أهلها لعدالة النبي محمد ﷺ فسألهم النبي ﷺ في موقف مهيب فقال: «يا أهل مكة أو يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» ← سيرة ابن إسحاق.
لقد رمى كفار قريش أسلحتهم وسيوفهم ورماحهم في طرقات مكة المكرمة ليقبلوا على هذا الدين ويدخلوا في دين الله أفواجاً.
فما اعظم رحمة الإسلام المتمثلة بفعل النبي محمد ﷺ، فقد جسد أروع الأمثلة في التسامح والرحمة الإنسانية والتي تمثلت بعدم قتل أسرى بدر الكبرى بل جعل من يُعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة فداءً له، قال الله ﷻ: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ محمد: 4.
وفي فتح مكة تجلت معاني الرحمة والحِلم والعفو والصفح على الرغم مما عاناه رسول الله ﷺ وصحابته الكرام رضي الله عنهم من صنوف الأذى بغير حق وإخراجهم من ديارهم، قال الله ﷻ: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحج: 40، وقد اجتمعت قريش بين يدي النبي ﷺ ذليلة منكسرة تنتظر ما سيفعله رسول الله ﷺ بهم وبأموالهم وقد بلغ فيهم الخوف أشده، فكانت تلك العبارة التي خرجت من فم النبي ﷺ ” ما تظنون اني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء “، فكانت مثالاً تحتذى للإنسانية كلها على مدار الزمان فلم يشهد العالم أعظم ولا أرحم ولا أحلم من نبينا محمد ﷺ فهو رحمةٌ مهداة للعالمين قال ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: 107.
عباد الله: إن انتصارنا على أعدائنا في هذه الغزوات والمعارك في شهر رمضان المبارك يدعونا لمجاهدة أنفسنا لنكون ربانيين كالصحابة رضي الله عنهم، قال الله ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ سورة العنكبوت: 69.
ولذلك علينا أن نجتهد في النصف الثاني من رمضان وخاصة العشر الأواخر من الشهر المبارك لننتصر على نفوسنا الأمارة، وننال هداية ربنا ﷻ لنصبح مع المحسنين، فقد كان النبي ﷺ يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها قالت السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: «كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ» ← رواه مسلم.
فهنيئاً لمن وفقه الله لطاعته وحافظ فيها على الطاعات والعبادات وسائر الأعمال الصالحة واستزاد منها في هذه الليالي العظام حتى يحظى بالعتق من النار في نهاية رمضان.
والحق أننا في شهر رمضان المبارك نستذكر المسجد الأقصى الأسير الذي يتعرض كل يوم للاعتداء والتدنيس، ونؤكد على قدسيته وإنه حق خالص للمسلمين لا يقبل القسمة الزمانية ولا المكانية، وندعو العالم أجمع وأصحاب الضمائر الحية الى الوقوف مع المسجد الأقصى تجاه ما يتعرض له من اعتداءات أثمة تسعى إلى إخضاع المصلين وإرهاب الأمنين في عبادتهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.
ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”.
ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، “أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..