تمر بنا الأيام وتمر سنوات العمر يحصدها حدث تلو الآخر. يمر قطارنا بين جوانب الدهر ويخترق وديان الحاضر قاصدًا مستقبلًا مجهولًا، ويترك حاضرًا يصبح عما قليل ماضيًا. يخلف ذكريات حُفرت في العقول، وعقول تغيرت بمرور الأحداث.
يتقدم بنا العمر ولا ننسى ما مر بنا من ماضٍ، يمر العمر ولا نسهو عن ذكرياتنا، فمهما كبرنا فلا نستطيع نسيان ذكريات مرت بنا بل نحتفظ بها في عقولنا ومخيلاتنا. فالإنسان لا يستطيع العيش دون ذكريات مهما كانت حلوة أو مرة. ويظل يتذكرها سواء كانت ذكريات جميلة أو مؤلمة. بل هو مرتبط بأيام مضت أثرت في كل شئ فيه، عملت على بناء شخصيته إيجابًا كان أم سلبًا، فتظل تصاحبه طيلة عمره.
ذكريات الماضي محفورة بداخلنا
لا شك أن أي حدث يمس الإنسان ويؤثر فيه يظل يتذكره لفترة ما. وما بالنا بماضينا فهو ما انبنت عليه عقولنا وشخصياتنا وسماتنا، وتظل هذه الشخصية والسمات تلازمنا أبدًا ما حيينا، وعندئذ لا يمكن نسيان ما جعلنا على ما نحن عليه. وتتعلق قلوبنا بالماضي حتى وإن كان فيه مشقة، بل ونتمنى أن نعود إلى الماضي ولو للحظات. إما إلى يوم سعيد أفرحنا فرحة لا تُنسى، فنأمل العودة كي نستزيد فرحًا ونأخذ من السرور ما يكفينا لسنوات نعيشها الآن ليست كمذاق الماضي. أو إلى يوم مؤلم حفر حزنًا في قلوبنا، ولكن نريد العودة كي لا نحزن كل هذا الحزن في الماضي ولنعلّم أنفسنا أن الحزن غير باقٍ كالفرح كذلك. أم نرغب في العودة لأيام سلكنا فيها مسلكًا خاطئًا ونريد العودة لإصلاح ما أتلفناه. كلها أمور من الماضي لم تعد موجودة معنا ولكنها تصاحبنا وتلازمنا طيلة حياتنا.
من منا لا يحن إلى يوم من الماضي؟ ومن منا لا تحدثه نفسه بأن الماضي أفضل له وأنه ليتنالم نكبر؟ ومن منا لا يقول ليتني لم أكبر؟ ومن منا لا يؤلمه قلبه كلما تذكر أمرًا من الماضي ويشعر بأن حالته المزاجية في ارتياح في الوقت نفسه؟
جميعنا نفعل ذلك، نتذكر الماضي ونحنّ إلى يوم أو ساعة أو لحظات منه. جميعنا يرى ماضيه أفضل من حاضره، وجميعنا نتمنى لو أننا لم نكبر. جميعنا تؤلمنا قلوبنا عندما نسير في شوارع كنا نسير فيها فيما مضى ومرت سنوات ولم تطؤها أقدامنا مرة أخرى. هذا الشعور العجيب الذي يمتلئ به قلبك وأنت تسير في الطرقات وأنت سعيد وقلبك يكاد يخرج من بين ضلوعك فرحًا وألمـًا وحنينًا، وننظر إلى ما حولنا بعين مبتسمة يغلبها الدمع، ونتساءل ماذا لو ظللنا في نفس المكان وظل صبانا كما هو ولم نكبر ونتخلى عن أماكن ضمت قلوبنا قبل أجسادنا، وضمدت جراحنا البسيطة وما زالت تضمد جراحنا حتى عندما كبرنا كلما نسير فيها.
ذكريات الطفولة والاحتفال بالعيد
يمر بنا العيد فنتذكر وقت أن كنا صغارًا وكيف كنا نحتفل بالعيد وكيف نلعب ونلهو، فنحنّ إلى لعبنا ونحن لا نأبه مسؤولية أو مستقبلًا، أما الآن فنفتقد هذا الشعور باللا مسؤولية أو عدم الاهتمام بمستقبل. نفتقد إلى لحظات جمعتنا بأحبابنا وأهلينا فترفع من معنوياتنا وتعلي من مشاعرنا الإيجابية وتزيد من ترابطنا الاجتماعي ولو بالذكرى. وهو ما يحدث عندما نشاهد الصور التي تجمعنا بأحبابنا فيما مضى وحين نتذكر موقفًا مع أحدهم بما أثر فينا بشكل أو بآخر.
يمر بنا أشخاص حفروا أسماءهم في ذاكرتنا. أثروا فينا بشكل كبير وكانوا سببًا في تغيرات طرأت على حياتنا فبقيت علامة في عقولنا حتى الآن. أولئك شكلوا جزءًا من ماضينا وذكرياتنا لا يُنسون أبدًا. ونظل نتذكرهم في كل مرة تمر بنا أمور مشابهة أو مواقف نتعامل معها بسلوك اكتسبناه بسببهم.
يقوم كل منا بالتفتيش في ماضيه عما كان سببًا في سعادته، وعما يأخذه بعيدًا عن واقعه إلى عالم مليء بالأحلام. نهرب من الواقع المادي الذي يضغط نفوسنا إلى عالم تصنعه مخيلتنا من عبق الماضي وذكريات تسعد بها نفوسنا. ونتجه بقلوبنا إلى مشاعر بريئة تشكلت بها قلوبنا فيما مضى، بعد أن أعيتنا قسوة الحاضر وظلمة المستقبل.
هذه الذكريات لا نملك أن نتذكرها وقتما شئنا، وإنما تأتينا الذكرى عند موقف يحدث أو جديد يطرأ أو عند حدوث ما يذكرنا بها. فالذكريات هي التي تُفرض علينا وليس نحن من نقوم بإعدادها وتذكرها، وإلا ما كانت تترك في نفوسنا هذا الشعور بالحنين والافتقاد، وما كانت تترك علامات تؤلم القلب طالما اعتدنا على استحضارها.
تطاردنا ذكريات الماضي في كل خطوة نخطوها، في طرقات كنا نضرب فيها بأرجلنا، ومناسبات كانت تجمعنا بالأحبة، وبيت أهلنا وعائلاتنا وما كانت تحتويه من بركة وصفاء وأمن وطمأنينة وسعادة، في غرفة احتوتنا في الصغر مرتبة بنظام نفتقده في أفخر الغرف في حاضرنا، وفي أغراض شخصية من الماضي تحمل عبير الحب والدفء والإحساس الصافي. في ماضي لا نعلم إن كان يطاردنا بذكرياته أم أننا نلهث وراء ذكرياته. ولا نعلم سوى أن جوارحنا جميعها تنجذب طواعية إلى ذلك الماضي الذي كان وما زال يحتوي قلوبنا.