نحن بصدد طرح بضْع دروس تربوية من الإسراء والمعراج. نعم؛ فلم تصل إلينا رسالة الإسلام إلا بعد عناء. بدأ العناء من صاحب الرسالة؛ محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعده أصحابه الكرام؛ وهم يسهرون الليل والنهار، وهم يخوضون الحروب، وهم يبذلون الغالي والرخيص والنفس والنفيس؛ حتى وصلت إلينا هذه الرسالة.
نحن نقف بين يدي الله موحدين، حتى غرق ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمال الصحراء.
مواقف صعبة في حياة الرسول
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «ما أوذي أحد ما أوذيت»، حتى يبلغ لنا هذه الرسالة.
ونحن نتحدث عن العهد المكي، لما كان -صلى الله عليه وسلم- في مكة. كان -صلى الله عليه وسلم- يطوف بتجمعات القبائل ويقصد زعمائها ويلتقي بوجهائها، ويعرض رسالة ربه على الركبان وعلى المسافرين، وذلك عبر أكثر من 10 سنوات وهو -صلى الله عليه وسلم- أن يرجو أن يجد من ينصره ويحمِل معه رسالة ربه.
كان -صلى الله عليه وسلم- في كل موسم من مواسم الحج. والحج كان مشروعا قبل أن يُبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-. كانوا يحجون على ملة إبراهيم.
لما كانوا يأتون إلى مكة للحج كان -صلى الله عليه وسلم- يقول «من يؤويني؟، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟». ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره إلا القليل القليل من فقراء مكة، كأمثال بلال بن رباح -رضي الله عنه وأرضاه-.
سُدَّت كل الأبواب في وجهه، تعرض -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه للإيذاء وللسرخرية وللتعذيب بجميع الأشكال. قامت قريش بحملة إعلامية تحريضية لتشويه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولتشويه دينه وأصحابه.
حتى كان الرجل من أهل اليمن أو من مُضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش، لا يفتننك.
النبي في الطائف
خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف لعله يجد من يهتدي بهديه ويلتزم بدينه. فما كان منهم إلا الصدُّ والردُّ والسخرية والإيذاء.
تخلَّوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يريد لهم الخير والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة. مع شعوره بعِبئ المسؤولية التي يحملها والأمانة الملقاة على عاتقه. ومع ذلك لم يجد منهم خيرًا.
تخيَّل! عشر سنوات والنبي يدعوهم ليلا ونهارا ولا يجد منهم إلا صدًا وسخرية وإيذاءً وتعذبا له ولقومه. حتى أنه في يوم من الأيام كان ساجدا بين يدي الله بجوار الكعبة، أتوا بكِرشة جملٍ ووضعوها على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هكذا كان حالة.
كيف ترون لرجلٍ يحمل هَمّ الدعوة وحده! إنما كان يشكو بثَّه وحزنه إلى الله -عز وجل-. لم يكن له سندٌ إلا عمه أبو طالب. لكن في تلك السنة مات أبو طالب، وفي تلك السنة ماتت خديجة؛ وهي سَنَد النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كانت تخفف عنه الأعباء.
ولكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفقد الأمل بالله.
نعم؛ في ذاك العام أتاه نداء من المولى ليأخذ نبيَّه في رحلة أرضية سماوية. إنها الإسراء والمعراج. ونحن في شهر رجب وبين جنبات هذه الذكرى.
النبي -عليه الصلاة والسلام- في حالة نفسية صعبة، لكن الله -عز وجل- لم يتخلَّى عنه. فقد أذِن له برحلة اسمها الإسراء والمعراج؛ ذكرها الله في القرآن الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
دروس تربوية من الإسراء والمعراج
كلنا يعرف الرحلة ويقرأ السورة، ولكن هناك دروس تربوية من الإسراء والمعراج. هناك معجزات، وهناك كرامات، وهناك تشريعات.
كان لهذه الرحلة أبعادًا تربوية عظيمة؛ فمن ذلك:
بعث الأمل في النفوس، وعدم اليأس والخوف من الواقع مهما كان مريرًا
لأنَّ المُتصرف بأحوال الناس وأعمارهم وأرزاقهم هو الله -عز وجل-. فيزداد المؤمن إيمانا ويقينا وثِقة بالحق الذي يحمله.
ما أجدر بنا أن نستفيد من هذا الدَّرس التربوي في ذكرى الإسراء والمعراج. فنُحيي في النفوس الأمل.
نحن في هذه الأيام أصابنا الضيق والكرب والهم. وهذا ماذا كان حال النبي -عليه الصلاة والسلام-.
عشر سنوات لم يؤمن معه إلا فقراء المهاجرين. حياته شِدَّة وألم، لأنه متصلٌ بالله -عز وجل- أراد الله -عز وجل- أن يعطيه عطاء ما بعد عطاء.
فالإنسان قد يسافر من مكان إلى مكان يرجع وعنده عزمٌ للحياة أكثر، يجدد حياته. فما بالك بإنسان يصل إلى سدرة المنتهى!
يُسرى بِه من مسجدٍ إلى مسجد، ويصلي بالأنبياء إماما. ثُم يعرَج به إلى ملكوت الله -عز وجل-.
إنها رسالة من الله -عز وجل-؛ أن لا تحزن، أنت لست وحدك. ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
حَقّ ومكانة المساجد
درس تربوي آخر في رحلة الإسراء والمعراج. أين هي نقطة الانطلاق في مكة؟ هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته أم في الطريق؟
- نقطة الانطلاق الأولى كانت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
- نقطة الانطلاق الثانية من المسجد الأقصى إلى عالم السماء.
إن المسجد هو البركة، هو مكان العطاء. نحن قصَّرنا بحق المساجد. للأسف ومِما يؤسَف له، ربما وصلنا إلى زمن صار الناس يهتمون بطرقاتهم وبالجلوس في الطرقات؛ ويمكثون في الطرقات أكثر مما يمكثون في المساجِد.
أين نحن من اهتمامنا بديننا وبمساجدنا! لو قِيل لبعض المسلمين أن موعد بث أحد مباريات كرة القدم الساعة الثانية ليلا لوجدتهم هناك. ولو قلت للمسلم أن هناك صلاة لليل، صلاة للتهجُّد، لقاء الله -عز وجل- لقال لك: لا تنسونا من الدعاء.
المسجد مكان العلم والمعرفة.
الله -عز وجل- هو حكيم وعليم. لا يذكر شيئًا في كتابه هكذا؛ إنها عن دراية. فهو -تبارك وتعالى- أحكم الحاكمين. أسرى من المسجد، إلى المسجد، إلى السماء.
فاهتموا بمساجدكم، اجعلوا قلوبكم تهوى المساجد. وتذكروا السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ صِنفٌ من هؤلاء «رجل قلبه معلقٌ بالمساجد». لا يخرج من المسجد حتى يعود إليه. هل رأيتم سمكًا يخرج من الماء؟
وذُكِرَ المسجد الحرام وهو كناية، والمقصود منه كل مسجد. ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾؛ لم يقُل نهارًا، لأن الطاعة في الليل أثوَب.
قال -سبحانه- ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا﴾.
الحكمة في الصبر
تأمَّل كل هذه السنوات العِجاف التي مَرّ بها سيدنا رسول الله ﷺ وما تعرَّض فيها من الأذى والظلم والاضطهاد. كل هذا الصبر في سبيل إيصال دعوة الإسلام إلى الناس.
النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم من الأيام لم يتذمَّر. ذهب إلى الطائف، ومعظمكم يعلم هذا الدعاء ويعرفه «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
كان لا يشكو إلى الناس.
لذلك؛ فإن ذكرى الإسراء والمعراج لها أبعاد تربوية عظيمة. تعلمنا ألا نيأس بعد عشر سنوات من الشدة.
يقول -تعالى- ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى | فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى | فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾. هنيئا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المقام.