وإذا قُلت لأحدٍ ( خير الكلام ما قل ودل )، قال لك: أهذا حديث عن النبي ﷺ؟. وقبل الإجابة يجب أن نّعلَم جميعًا أنَّ العاقل ينبغي عليه أن ينصف أذنيه من فيه، ويعلم أنه انما جُعِلت له أذنين وفم واحد لكي يسمع اكثر ما يتكلم، لأن اللسان هو المورد للانسان موارد العقل.
يقول ابن المبارك
تعاهد لسانك إن اللسان *** سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بَرِيدُ الفؤاد *** يدلُّ الرجال على عقله
المُصطفى ﷺ القدوة
فأعقل الناس هو الذي يُعَدّ كلامه عدّا. ولذلك في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت “كان رسولُ اللهِ ﷺ لا يسرِدُ الكلامَ كسَرْدِكم هذا , كان كلامُه فصلًا يُبيِّنُه يحفظُه كلُّ من سمِعه”. وفي حديثٍ آخر “إنَّما كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحْصَاهُ”.
وقد أوتيَ عليه الصلاة والسلام جوامع الكلِم، وفي حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال “كانت صلاة رسول الله ﷺ قصداً، وخطبته قصداً”.
وانظر بنفسك في بعض الخطباء الآن، يقوم بعمل مُفدِّمة، ثم توطِئة، ثم عناصر، ثم يبدأ يدخل في الموضوع الذي يتكلم فيه.
وعلى اللسان أربعة أبواب، الشفتين “مصرعين” والأسنان “مصرعين آخرين”، لكي يُحكِم الإنسان غلق هذا اللسان.
على حد قول القائل
ما ذلَّ ذو صمت، وما مِن مُكثرٍ إلَّا يَزلُّ، وما يُعاب صَمُوتُ، إن كان مَنطقُ ناطقٍ مِن فضَّةٍ فالصَّمت دُرٌّ زانه الياقوتُ.
خير الكلام ما قل ودل .. في حياة السّلف
قال بعض السلف “صحبت الربيع عشرين عاما ما سمعت منه كلمة تعاب”.
وقال آخر “صحبت ابن عون أربعا وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة”.
لماذا؟ ببساطة، لأن هؤلاء كانوا يعرفون مقام وقدر هذا الصّمت، وكان مبدأهم: خير الكلام ما قل ودل.
أقسام الكلام
والكلام لما قسّمه العلماء قالوا على أربعة أقسام:
1. كلام نفع محض
وهذا ينبغي للإنسان أن يُكثِر منهُ، كذِكر الله -تعالى-، أو قراءة القرآن، أمر بمعروف أو نهيٍ عن مُنكَرٍ، الدعاء.. إلى غير ذلك من الصالحات.
2. كلام ضررٌ محض
كمن يكذب أو يغتاب، أو ينُم، يشتم ويسُب، يأمر بمُنكر وينهى عن معروف.. إلى آخرهِ من كوارِث اللسان وما يتكلّم به.
وهذا بالطّبع ينبغي عليه أن يُمسِك عن ذلك الكلام، حتى يوقِف تلك الخطايا والسيئات التي تُكتَب عليه جرّاء ما يتوّه بِه.
3. كلام فيه نفع وضر
وهُنا يجب على الإنسان أن يميز الخبيث من الطيب، فيُكثِر من الكلام النافع ويتوقف عن الكلام الضار.
فكُلٍ مِنّا يجب أن يحرص على ما ينفعهُ في دُنياه وآخِرته.
4. كلام لا فيه نفع ولا ضر
وهو فضول الكلام. ذلك الذي لا تجِد له معنى، أو مكانًا أو احتياجًا.
وقد ابتُلي الكثيرون “للأسف” في هذا الزمن بما يُعرَف بفضول الكلام.
وسمعَ المعافى بن عمران -وهذا أحد السلف الكبار- رجلا يقول: ما أشد البرد اليوم. فالتفت إليه المعافى بن عمران وقال له: واستدفئت الآن؟ لو سكتّ كان خيرا لك.
فهذا فضول الكلام، وهذا سيُكتب عليك، وكلما تكلّم العبد كُلّما كثُر وقوفه بين يَدي الله -تعالى-.
وقد قال -سبحانه- “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ”.
فالنكِرة هُنا هي كلمة “قول”، في سياق النفي هي كلمة “ما”، والنكرة في سياق النفي تُفيد العموم. أي: ما من قول يلفظ به الإنسان إلا لديه رقيب عتيد. لماذا قلتها؟ وماذا تقصِد بها؟ فما بالك بهذا الكلام الذي نتكلم به كثيرًا وهو فقط ثرثرة.
ولذلك كان السلف من أشد الناس حرصًا على لزوم الصّمت. فقد دخل عمر -رضي الله عنه- على أبي بكر فوجدهُ ماسك بلسانه. فقال له عمر: مالك يرحمك الله؟ فقال أبو بكر -وقد أشار إلى لسانه-: هذا أوردني الموارِد.
وهذا “أيضًا” الفاروق عمر -رضي الله عنه- يقول “من كثر كلامه كثر سقطه”.
خير الكلام ما قل ودل هل هو حديث؟
لا، هذا ليس بحديث، ولم يقف أهل العلم على حديث للنبي ﷺ كهذا.
وقيل أنهُ يُنسَب إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، بقولِهِ “خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل”.
وقيل أيضًا أنه من الكلام الدارج ولا يُعلَم كاتِبهُ أو من يُنسَب إليه.