اللهم إني أحمدك حمدا كثيراً طيباً مباركا فيه، ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، وصل اللهم وسلم على الحبيب المصطفى المعلم، وعلى آله وصحابته المكرمين في كل وقت وحين، ثم أما بعد: فإن على الإنسان حقوق للخالق عز وجل، وللخلق فما كان للخالق فهو يتجاوز عنه برحمته وفضله أو يأخذ العبد به بعدله، وأما ما كان للخلق فإن شأنه خطير وأمره موكول لأصحابه، فحقوق الخلق على الخلق لا تسقط بالتقادم ولا تضيع بالنسيان، فمهما انقضى من الزمان تظل معلقة في عنق من يتحملها.
وحقوق الخلق تلك تشمل كل حق مادي أو معنوي أو أدبي، ومن أخطر الحقوق ما يتعلق بالماليات والديون، فأمر الدَّين في الإسلام جد خطير، خطير إلى درجة تجعل المسلم يفكر ألف مرة قبل أن يستدين من أحد، وألا يفعل ذلك إلا عند الضرورة الحتمية، ولا يلجأ إليه إلا في أضيق الحدود، وبضوابط معينة، تضمن سداد ذلك الدين في حياته، والتوصية بذلك إن وافته المنية، وهنا سيكون حديثنا منصبا على خطورة الدين في الإسلام، وكيف يهتم الإسلام بإبراء الذمة، وأثر ذلك على المسلم بعد موته.
إبراء الذمة من الدَّين واجب إنساني وإسلامي
إن الدَّين يشمل أي حق لأي إنسان في ذمة المسلم، والبراءة من الدَّين أمر واجب وتكون بتسديده والتخلص منه، أو بإسقاط صاحب الدين لدينه وإبراء ذمة المدين، وهنا سنورد قبسا من النصوص التي توضح خطورة الدين ووجوب قضائه والإسراع في ذلك قدر المستطاع، لأن العبد لا يضمن أن يمهله الأجل حتى يقضي ما عليه من الديون.
ومن أهم تلك النصوص وأشدها خطورة ما ورد عن محمد بن جحش -رضي الله عنه- إذ يقول: ( كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ . مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) حسنه الألباني في صحيح النسائي.
وهذا إن دل فإنما يدل على خطورة الدين، والحرص على قضائه وإبراء الذمة منه وعدم الاستهانة به إطلاقاً، وعدم اللجوء إليه ابتداء إلا مع تحقق القدرة على السداد.
ومن خطورته أن النبي لم يصل على جنازة لعلمه بأن على الميت دين، حتى تحمله عنه صحابي جليل، ونظرا لتقدير النبي -صلى الله عليه وسلم لأمر الدين وأثره، فإنه كان دائما يدع: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ ). وحين سئل عن سبب كثرة استعاذته من الدين ؟. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [أي: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ ) رواه البخاري ومسلم.
لماذا شدد الإسلام على أمر الدين كل هذا؟
شدّد الإسلام على أمر الدين لخطورته وأثاره السيئة على الفرد والمجتمع في الدنيا، وعقوبته الكبيرة في الآخرة، ومن مظاهر تلك الأثار السلبية ما يلي:
• يترتب على الدين مفاسد كثيرة وضرر كبير، ومن ذلك أنه يورث الهم ويجعل صاحبه في انشغال دائم وقلق، كما يورثه الزل والمهانة، فالمدين أسير الدائن، وهو ثقيل عل نفس كل حر أبي، فيه قهر للرجال وانكسار لهم.
• يدفع الدَّين الإنسان عند العجز عن أدائه إلى المماطلة والكذب، واختلاق المبررات غير الحقيقية لتبرير عجزه عن السداد، ويدفعه لإعطاء وعود كاذبة بالسداد.
• من أخطر كوارث الدين ما يترتب عليه من المشاكل والمنازعات والقضايا التي تخلق العداوات البغضاء وتفسد العلاقات وتعكر صفوها.
أما في الأخرة فإن قضاء الدين يكون من الحسنات، فيأخذ كل صاحب دين دينه من حسنات المدين، فإن لم يكن له حسنات أخذ هو من سيئاته فطرحت عليه فيلقى في النار.
فنعوذ بالله من المغرم والمأثم ومذلة الدين وغلبته، ونعوذ بالله من أن نلقى الله ونحن مدينون لخلقه، أو يحبسنا الدين عن الجنة، فيارب اقض عنا واغننا بحلالك عن حرامك ولا تضطرنا إلى الدين ما أحييتنا.