مقدمة الخطبة
الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَ عِبَادَهُ بِإِقَالَةِ العَثَرَاتِ وَمَحْوِ السَّيِّئَاتِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ بِمَوَاسِمَ تُعِينُهُمْ عَلَى فِعْلِ الخَيْرَاتِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، بَارَكَ لأَوْلِيَائِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ رَحْمَةً وَمَغْفِرَةً، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ دَعَا رَبَّهُ وَكَبَّرَ، وَأَشْرَفُ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى مَوْلاهُ وَاسْتَغْفَرَ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ المُقْتَفِينَ آثَارَهُ إِلَى يَوْمِ المَحْشَرِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ–، وَأَخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ لِتَنَالُوا رِضَاهُ، يَقُولُ اللهُ ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
الخطبة الأولى
عباد الله، اعْلَمُوا –يَسَّرَ اللهُ لَكُمْ أَسْبَابَ الخَيْرِ– أَنَّكُمْ تَعِيشُونَ فِي أَيَّامٍ هِيَ خَيْرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، جَعَلَ اللهُ العَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا فِي سِوَاهَا، فَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ»، وَلا رَيْبَ أَنَّ مِنْ أَفْضَلِ هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي نَالَتِ التَّكْرِيمَ وَالتَّفْضِيلَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَهُوَ يَوْمٌ أَكْمَلَ اللهُ ﷻ فِيهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ فِيهِ النِّعْمَةَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، يَقُولُ اللهُ ﷻ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: لا عَجَبَ أَنْ يُفِيضَ اللهُ ﷻ عَلَى عِبَادِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَرَمًا وَرَحْمَةً وَعَطَاءً، فَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ جَعَلَ لَهُ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَيُبَاهِي سُبْحَانَهُ بِأَهْلِ المَوْقِفِ مَلائِكَتَهُ الكِرَامَ، تَقُولُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟».
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ اللهَ ﷻ يُنْزِلُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الرَّحَمَاتِ وَالعِتْقِ يَوْمَ عَرَفَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْتِقُ فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّ الحَجِيجَ وَهُمْ يَقِفُونَ فِي عَرَفَةَ يَلْهَجُونَ مُتَذَلِّلِينَ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَيَقُولُ جَلَّ جَلالُهُ: «مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟»، وَالجَوَابُ مُقَدَّرٌ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا إِلَّا رَحْمَتَكَ وَمَغْفِرَتَكَ، فَاللهُ ﷻ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ وَهُوَ يُبَاهِي بِهِمْ، وَرَبُّنَا ﷻ لا يُبَاهِي بِالعُصَاةِ وَلا المَحْرُومِينَ، بَلْ يُجْزِلُ العَطَاءَ لِلْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
يَقُولُ ﷻ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، فَأَجْمَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ العَبْدُ الصَّالِحُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ التَّوْبَةُ وَطَلَبُ المَغْفِرَةِ، فَفِي التَّوْبَةِ سَعَادَةٌ لِلْقَلْبِ وَرَاحَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ–، وَاستَغِلُّوا مَوَاسِمَ البِرِّ فِي طَاعَتِهِ وَطَلَبِ رِضَاهُ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
⇐ هنا أيضًا: خطبة مكتوبة حول فضل يوم عرفة وفضائِل الأضاحي
الخطبة الثانية
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ المُقْتَفِينَ آثَارَهُ وَخُطَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ– ، وَاعْلَمُوا أَنَّ بَرَكَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِأَهْلِ المَوْقِفِ فِي عَرَفَةَ، بَلْ رَحْمَةُ اللهِ وَاسِعَةٌ، وَكَرَمُهُ عَامٌّ يَسَعُ الجَمِيعَ، وَمَا عَلَى المَرْءِ إِلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الطَّاعَةِ، وَيَصُونَ نَفْسَهُ عَنِ انْتِهَاكِ العَهْدِ الَّذِي عَاهَدَهُ، فَاللهُ ﷻ يَقُولُ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وَلا تَنْسَ –أَيُّهَا المُوَفَّقُ– الصِّيَامَ مَا لَمْ تَكُنْ حَاجًّا بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، فَإِنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ تَكْفِيرٌ لِلذُّنُوبِ، يَقُولُ حَبِيبُنَا طَبِيبُ القُلُوبِ ﷺ: «إِنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»، فَلا تَحْرِمْ نَفْسَكَ الخَيْرَ، وَلا تُفَرِّطْ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَكُنْ مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ لا يُبَدِّلُونَ عُهُودَهُمْ، وَلا يَنْقُضُونَ شَهَادَتَهُمْ، فَاللهُ ﷻ يَمْتَدِحُ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فَيَقُولُ: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾.
فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ–، وَأَحْسِنُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِتَوْبَةٍ قَبْلَ المَمَاتِ، وَاشْتَغِلُوا بِمَا يَنْفَعُكُمْ عِنْدَ اللهِ فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ، وَاللهُ ﷻ قَدْ وَعَدَكُمْ بِحِفْظِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
هذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
الدُّعـاء
- اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِينَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُومًا.
- اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَاهْدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْحَقِّ، وَاجْمعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الخَيْرِ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلامَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
- اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ بِكَ نَستَجِيرُ، وَبِرَحْمَتِكَ نَستَغِيثُ أَلاَّ تَكِلَنَا إِلَى أَنفُسِنَا طَرفَةَ عَينٍ، وَلاَ أَدنَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَصلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ يَا مُصلِحَ شَأْنِ الصَّالِحِينَ.
- اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ.
- رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
- اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَات، المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَات، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.