تحت عنوان: يوم عاشوراء وارتباط أمتنا بهويتها؛ نقدم خطبة الجمعة لهذا الأسبوع، فكما يُقال: لكل مقام مقال. ومع دخولنا لشهر الله المُحرَّم وتقديمنا من قبل خطبة عن الهجرة النبوية بهذه المناسبة، نلتقي بعده بعدَّة أيام مع مناسبة إسلامية أُخرى وهي يوم عاشوراء؛ وما جاء في السُّنَّة النبوية عنه وفيه من صوم وفضائل وأسباب.
فها نحن نقف مع خطبة الجمعة هذه مع يوم عاشوراء؛ ونُطنِب في الحديث عنه قدر الإمكان.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله رب العالمين، نحمده ﷻ ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونستنصره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله؛ نشد يا رسول الله أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت لهذه الأمة، وكشف الله بك الغمة، وتركتنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل يا ربي وسلم وبارك على سيدنا وقائدنا وقرة أعيننا محمد؛ وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷻ ولزوم طاعته؛ لقول ربنا ﷻ ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾.
الخطبة الأولى
مع استقبال الأمة لشهر الله المحرم، فإنها تستقبل في هذه الأيام المباركة من هذا الشهر المبارك ذكريات إيمانية تجدد للمسلمين ارتباطهم بتاريخهم وهويتهم ووظيفتهم في هذه الحياة، وتبعثُ في الأمة روح الإيمان بالله ﷻ التي تحلى بها سيدنا موسى عليه السلام حين خرج من أرض مصر مع بني إسرائيل، بعد أن ذاقوا الوان الظلم والعذاب من قِبل فرعون الذي أمرهم بعبادته من دون الله ﷻ، يقول ﷻ: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
فبعث الله ﷻ له سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، ليستنقذ بني إسرائيل من هذا الظلم والطغيان، فأرسل إلى فرعون جندياً من جنوده، وهو الماء الذي كان يفتخر بأنه يجري من تحت قصوره، ليصبح في تلك اللحظة سبباً في هلاكه وغرقه، قال ﷻ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾.
لذلك فقد كان هذا اليوم المشهود من أيام الله ﷻ التي يتذكرها المؤمنون بالشكر على إظهار قدرة الله ﷻ وعظمته وكبريائه وعزّته حين نجّا سيدنا موسى عليه السلام، من فرعون الذي استكبر في الأرض بغير حق وادعى الألوهية وقد قال ﷻ: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ أي: “بنعَمه عَلَيْهِمْ، فِي إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَسْرِ فِرْعَوْنَ، وَقَهْرِهِ وَظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ، وَإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدْوِهِمْ، وَفَلْقِهِ لَهُمُ الْبَحْرَ، وَتَظْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالِهِ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ”.
عباد الله؛ لقد كانت هذه الحادثة العظيمة، دليلاً على ارتباط هذه الأمة المباركة بالأمم المؤمنة السابقة وأن دين الإسلام هو دين الأنبياء السابقين عليهم السلام، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام هو اللبنة الأخيرة في هذا الصرح المهيب للرسل والأنبياء الداعين إلى دين الله ﷻ، فقد كان يوم عاشوراء يوماً معظماً لهذا السبب، وقد كانت قريش تعظّم هذا اليوم قبل الإسلام وتصومه، وكان سيدنا محمد ﷺ يصومه قبل بعثته.
فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله ﷻ عنها قَالَتْ: «كَانَ عَاشُورَاءُ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الفَرِيضَةُ، وَتَرَكَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» — سنن النسائي.
وأما القدر المشترك بين هؤلاء الأنبياء جميعاً فهو تأييد الله ﷻ لهم ونصرته إياهم وكما خرجَ موسى عليه السلام من مِصرَ بسبب الظلم الواقع على بني إسرائيل، كذلك خرج نبينا ﷺ من مكة إلى المدينة بسبب ظلم أهلها في رحلة الهجرة المباركة، وكما نصر الله ﷻ موسى عليه السلام وقومه المستضعفين في الأرض، وجعلهم خلفاء وأئمة، وأدخلهم الأرض المقدسة.
كذلك نصر الله ﷻ سيدنا محمد ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، وأقام بهم أمّة في المدينة المنورة، لذلك أقرّ النبي ﷺ صيام ذلك اليوم شكراً لله ﷻ على إظهار الحق ونصر أوليائه، وحين سأل عن سباب صيام اليهود لهذا اليوم قالوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» — صحيح البخاري.
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على العناية بمناسبات الأمة لأنها تربطها بهويتها، وتدعوها إلى التمسّك بتاريخها وحضارتها، وأن يكون لبعض الأيام والأوقات مزيد تخصيص لتنزل الرحمات، كيوم الإسراء والمعراج، ويوم الهجرة النبوية المشرّفة، وذكرى المولد النبوي المبارك، فكلّ هذه الأحداث تستدعي من المسلمين شكر الله ﷻ على النعم العظيمة التي أولاها لهذه الأمة، كما ورد في القرآن الكريم الكثير من أخبار الأمم السابقة التي نستلهم منها الدروس والعبر والعظات، فما أحوجنا أن نعظم أيام الله ﷻ وأن نقف على سرِّها، وأن نتعرض لنفحات الله ﷻ فيها، وأن نحث على ذلك أهلنا وأبناءنا.
وقد جعل الله ﷻ لصيام هذا اليوم أجراً عظيماً، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال ﷺ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» — صحيح مسلم.
وقد ذكر العلماء أن أفضل كيفية للصيام، أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وإلا صام يوماً قبله أو بعده، والتاسع أفضل، وإلا صام عاشوراء وحده، لقول المصطفى ﷺ: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع» — مسند الإمام أحمد، قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: «فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» — صحيح مسلم، وفي ذلك دلالة على أن هذه الأمة وإن كانت تمثل امتداداً لما سبقها من الشرائع، إلا أن لها استقلالاً وإرادة وتميزاً عن غيرها.
وقد وكان الصحابة رضي الله عنهم يدربون صبيانهم فيه على الصيام، تعويداً لهم على الفضل، فعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: «أرسل النبي ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار» — صحيح البخاري.
يعلمنا يوم عاشوراء أن من كان الله ﷻ معه فلا يضيره ظلم الظالمين وكيد الكائدين، وكما وقف موسى عليه السلام واثقاً بربه ﷻ، بعد أن أدركه فرعون وجنوده بجيشهم، ورأى أصحابه أنهم هلكى، كما أخبر ﷻ: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾. ولكن سيدنا موسى أجابهم إجابة الواثق بالله ﷻ: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. وهو ما يذكرنا بيقين سيدنا محمد ﷺ حين قال لصاحبه الصديق أبي بكر رضي الله عنه، وهما في غار ثور يوم الهجرة حين احتفت بهم الخطوب وتكاثرت عليهم الأخطار: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
قدمنا لكم من قبل أيضًا: خطبة جمعة عن عاشوراء وما يتعين على المسلمين أن يَفْطَنُوا له الآن
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله؛ وإن من الأحداث المؤلمة التي يستذكرها المسلمون في يوم عاشوراء، ما جرى من مقتل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما ومن معه على يد فئة لم تراعِ حرمة آل بيت رسول الله ﷺ، ولم تحترم أصحابه رضي الله عنهم، ولم تزِد هذه الحادثة آلَ البيت والصحابة رضي الله عنهم إلا شرفاً وكرامةً في مسيرة تعظيمهم لأمر الله ﷻ ولأمر رسوله ﷺ، ودفاعهم عن قضايا الأمة وصيانةِ الإنسانية، فهنيئاً لسيدنا الحسين رضي الله عنه وأرضاه الشهادة في سبيل الله ﷻ، إنها الشهادة التي هي أعظم صفة يرتحل بها مسلم إلى الله ﷻ.
وهنيئاً لنا بتضحيته ورجولته وبسالته ودفاعه عن الحق، ولأننا أمة حيةٌ وذات رسالة سامية فلا بد من الاستفادة من كل الذكريات لنشر الخير والمحبة والرحمة والهداية للناس جميعاً كما أرادها النبيون والصديقون والشهداء والصالحون معتصمين دائماً بحبل الله المتين، وبمحبة الله ﷻ ورسوله ﷺ وآل بيته وأصحابه أجمعين، وفي هذه المناسبة نجدد محبتنا لآل بيت النبي ﷺ ومحبة ذريته وأزواجه وآل بيته الأطهار في بلدنا المبارك، وكذلك نجدد الحب لكل صحابته ﷺ محبة به ﷺ.
ولا تفوتكم: خطبة حول عاشوراء وما اقترن بها من دروس وعبر
ملخص الخطبة
- يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر مُحرم، وهو يوم كريم في شهر عظيم، جعله الله ﷻ محطة إيمانية، نستذكر فيه نجاة سيدنا موسى عليه السلام من فرعون.
- وإن احتفاء المسلمين بيوم عاشوراء دليل على ارتباط هذه الأمة المباركة بالأمم المؤمنة السابقة وأن دين الإسلام ما هو إلا استكمال لمسيرة الأنبياء السابقين، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام هو اللبنة الأخيرة في هذا الصرح المهيب للرسل والأنبياء الداعين إلى دين الله ﷻ.
- إن ذكرى الهجرة النبوية الشريفة في شهر محرم تزيد من تمسك الأمة بدينها، واقتدائها بخاتم النبيين ﷺ الذي صام يوم عاشوراء تكريماً لسيدنا موسى عليه السلام، فكان صيامه ﷺ شكراً لله ﷻ على نعمته السابغة، فحريٌّ بهذه الأمة الوسط التي تشهد على الأمم يوم القيامة أن تكون أمة حضارية في كل مناحي الحياة.
- إن محبة النبي ﷺ ركن من أركان ديننا الحنيف، ومن محبته نحب آل بيته الأطهار وأزواجه أمهات المؤمنين، ونحب ذريته إلى يوم الدين.