نسوق لكم هنا خطبة عن يوم القيامة. نسرد من خلالها أهوال هذا اليوم العظيم، وأحوال الناس فيه؛ من الفائزين والخاسرين. وبالطَّبع مثل هذه الخطبة لا تحتاج إلى مزيد بيان لأهميتها ووقعها في قلوب ونفوس المسلمين.
نحن هنا في ملتقى الخطباء وصوت الدعاة بموقع المزيد نوفر لكم هذه الخطبة مكتوبة وجاهزة، وبها ما يلزم من آيات القرآن الكريم، ومن أحاديث الرسول المصطفى -صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها-، وغيرها من المواعِظ والإرشاد.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. واشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان واقتفى الأثر إلى يوم الدين وسلم تسليما مزيدا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا | يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أما بعد، معاشر المسلمين؛ فإن أصدق الكلام كلام الله ﷻ، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ. وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة.
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين؛ أمرٌ من الله ﷻ لعباده المؤمنين؛ بل أمرٌ من الله -عز وجل- للناس عامة. قال الله ﷻ في محكم التنزيل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أهوال يوم القيامة
إنه يوم غد يا عباد الله، قرَّبه الله ﷻ لقربه حقيقة. ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا | وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾. إنه يوم القيامة الذي سيحشَر العِباد إليه؛ صغيرا وكبيرا، غنيا وفقيرا، ذكرا وأنثى. الكل سيخرج من قبره وسيعالج تلك المواطن في ذلك اليوم.
إنه يوم القيامة يا عباد الله؛ يوم الصاخة، يوم الطامة، يوم الحاقة، يوم القارعة.
إنه اليوم الذي لا يوم مثله. إنه اليوم الذي لا يوم بعده. فيه الشمس تكوَّر، والكواكب تنثر، والبحار تسجر، والقبور تبعثر، والوحوش تُحشَر، والعشار تُعطَّل، والموؤودة تُسأل، والنفوس تُزوَّج، والسماء تكشط، والجحيم تسعر والجنة الزفت. وأجل من ذلك وأعلى وأعظم قول ربنا ﷻ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ | وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ | وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ | وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ | وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ | وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ | وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ | وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ | بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ | وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ | وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ | وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ | وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾.
إنه يوم القيامة. فيه السماء تنفطر، والكواكب تتناثر، والقبور تُبَعثَر، والنفوس تعلم حقيقة ما قدمت أو أخرت. وأجَلُّ من ذلك وأعلى واحكم؛ قول ربنا ﷻ ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ | وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ | وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ | وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ | عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾.
إنه اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين. إنه اليوم الذي يقول الله ﷻ فيه لآدم: ﴿يا آدم أخرج بعث النار﴾. فيقول آدم: وما بعث النار؟ قال: ﴿من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين﴾. «فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد». وهذا الحديث في صحيح البخاري.
في ذلك اليوم -يا عباد الله- يشتد الخوف على الناس. القلوب تضطرب، والعيون شاخصة، والإقدام ترتجف، والقلوب ترتعد. كلٌ ينتظر دوره، وماذا سيحكم الله ﷻ في أمره. حينها يدني الله -عز وجل- الشمس من رؤوس الخلائِق حتى منهم على قدر الميل. فيغرق الناس في عرقهم، على قدر أعمالهم في هذه الحياة. فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. كلٌ على قدر عمله.
حينها يسير الناس إلى أنبياء الله ﷻ، يطلبون الشفاعة. أن يصل ﷻ فيهم ليُخَلصوا من ذلك المقام.
والله ما من أحد منا إلا سيقف وسيعيش تلك المواطن، سيرى الجبال وهي تسير، سيرى البحار وهي تسخر، سيرى كل منا الصحف وهي تنشر، سيرى العباد الشمس حين تدنو من رؤوس الخلائق.
فعلى قدر الأعمال -عباد الله-، على قدر سيرك في هذه الحياة يكون العرق منك يوم القيامة. فإن كنت عبدا صالحا فإنك لا تعرق في الأصل. فإن الله ﷻ، إذا خرجت من قبرك بعث إليك ملائكة معهم دواب من دواب الجنة فيحملونك على تلك الدواب حتى يؤتى بك إلى أبواب الجِنان. إما أن كنت مفرطا مضيعا مقصرا غافلا، فإم اليوم عليك شديد، وإن العرق سيلجمك إلجاما.
فسِر إلى الله ﷻ بأعمال صالحة تكون مُخَلِّصة لك في ذلك اليوم، من ذلك العرق العظيم.
إن العبد في هذه الحياة ليتضجر من العرق، ويتململ منه أن أصابه في عينه أو في وجهه أو في جسده. وهو عرق يسير جدا، لا يمكن أن يقارن بعرق يوم القيامة. فكيف بك إذا ألجمك ذلك العرق إلجاما!
يوم يفر المرء من أخيه
معاشر المسلمين؛ في ذلك الموطِن سيرى كل منا أخاه، وسيرى أباه، وسيرى أمه، وسيرى زوجه، وسيرى ابنه، وسيرى ابنته. إنهم الأقارب الذين عشت في حياتك مدافعا عنهم، ساعيا من أجل اللقمة لهم والعيشة الطيبة. أما في تلك المواطن فتختلف الأحوال ﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾.
تأتي الأم إلى ابنها… يا بني، حسنة واحدة! فيقول لها ابنها: إليكِ عني، إليكِ عني؛ فإني أشكو مما تشكين منه. فهي تقول: يا بني ألم يكن بطني لك وعاء، وثديي لك سقاء، وحجري لك وطاء. يقول: إليك عني يا أماه، ألا ترين ما أنا فيه!
ويأتي الأب إلى ابنه، ويقول: يا بني؛ أطعمتك من جوع، وكسوتك من عري؛ حسنة واحدة. فيتملص ويتخلص ذلك الابن. ويقول: يا أبتاه، أما ترى ما نحن فيه؟ فاني أشكو مما تشكو منه.
قال رب العالمين ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ | وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ | وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ | لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. قال رب العالمين ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ | وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ | وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ | وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ﴾.
النار تُنادي
في ذلك الموطن -عباد الله- تنزل ملائكة الله ﷻ في أشكال رهيبة وصور مهيبة، حتى يكونوا صفا على العباد. قال الله ﷻ ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا | وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾. حينها، في ذلك الموطن -عباد الله- لا تسمع صوتا إلا حسا؛ كما قال الله ﷻ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا﴾.
في ذلك الموطن -عباد الله- يؤتى بنار جهنم وهي تزفر وتغيظ، والملائكة يمسكونها. لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك. يجرونها وهي تزفر وتغيظ.
لقد غضبت لغضب ربها ﷻ. فإن ربنا القيامة يغضب غضبا شديدا، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.
فكذلك النار؛ تغضب لغضب ربها الجبار، وتنادي أين أصحابي؟ أين أصحابي؟
فلا إله إلا الله. ما أسوأ حال المفرطين في ذلك اليوم، وهم يسمعون النار وهي تناديهم؛ تريد أصحابها، تريد أحبابها، تريد الذين عاشوا من أجلها؛ فأطعَموها وسقوها في هذه الحياة حتى تأكل منهم الجلود واللحوم وتنهش العظام.
أسأل الله لي ولكم السلامة من حرها وجحيمها وزقومها وقطميرها.
ستُسأل يوم القيامة
معاشر المسلمين؛ وفي يوم القيامة، في ذلك اليوم يقف الناس ينتظرون الوقوف بين يدي الله ﷻ. فما من عبد جرت عليه الأقلام في هذه الحياة إلا سينادى به على رؤوس الخلائِق؛ يا فلان ابن فلان، قم للعرض الأكبر على الله.
سينادى باسمك أنت، نعم باسمك الذي سُميت به في هذه الحياة، وباسم أبيك. يسمع ذلك أهل الموطن جميعا من ملائكة وأنبياء ومرسلين وصالحين وطالحين. أُختير اسمك، فلا بد من أن تقوم، تسير، ترتعد فرائِسك؛ حتى تقف بين يدي الله، بين يدي الجبار، بين يدي الكبير، بين يدي الذي أسبغ عليك النعم في هذه الحياة؛ ولكنك عصيته، تجاوزت حدوده، غرك ستره المرخي عليك.
ستقف بين يديه ﷻ، وسيسألك عن الصغير والكبير، سيسألك ﷻ عن عمرك، عن شبابك كله. قال النبي ﷺ «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه».
ستُسأل عن العمر كله؛ الليل والنهار، وسِن الشباب، كل الأوقات التي مرت بك، سيسألك عنها رب العالمين؛ وهو أعلم. سيسألك ﷻ عن شبابك فيما أفنيته. الشباب الذي هو مرحلة السير إلى الله ﷻ. إذ العبد في قوة، إما أن يسير بتلك القوة إلى الله وإما أن تتخطفه شياطين الإنس والجن، والنزوات والشهوات؛ فيسير إلى غير مولاه. فسيسألك ربك أيها الشاب. والله ستسأل عن شبابك فيما أبليته.
وسيسألك عن مالك؛ من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟
وسيسألك ﷻ عن علمك ماذا عملت فيه؟
الفائزون يوم القيامة
عبد الله؛ إن كان الله ﷻ قد سبقت لك منه الحسنى. سترك الله ﷻ ووضع عليك كنفه وستره، وغررك بذنوبك. ثم يقول ﷻ وهو الغفور الرحيم وهو الستير؛ يقول: ﴿يا عبدي، أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر يوم فعلت كذا؟﴾ فتقول: أي رب أذكر. فيقول ﴿وأنا سترتها عليك في الدنيا، وأسترها عليك اليوم؟﴾. فتعطى كتاب حسناتك بيمينك، ثم تخرج إلى الناس فرحا مستبشرا مسرورا.
والله إنه لفرح لم يسبق أن ذقته في الدنيا، ولم يسبق أن ذقته في الآخرة. حينها تفرح فرحا عظيما. وتقول ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ | إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾. إنه الكتاب الذي ملأته بصلاة الجماعة، إنه الكتاب الذي ملأته بالصدقات والزكوات، إنه الكتاب الذي ملأته بالحسنات والقربات، إنه الكتاب الذي ملأته بالاستغفار والتسبيح والتهليل، إنه الكتاب الذي ملأته ببر الوالدين، إنه الكتاب الذي ملأته بالنوافل من قيام ليلٍ وصلاة ضحى ورواتب وسنن وغيرها.
حينها يُكْشَف أمامك، فترى ما فيه من الحسنات.
وذهبت في يوم القيامة باحثاً
في طولها وبعرضها عن موئلي
والازدحام على المداخل مثله
مثل ازدحام النحل حول المنهل
ولكل بابٍ حارسٌ نظراته
تحكي لهيباً حارقاً في المرجل
لكن الخاسرون يوم القيامة…
وإن كنت مُفرّطا، مضيعا، مقصرا، خارجا عن طاعة رب العالمين. فأولئك الذين حقت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
يُعطى العبد كتابه بشماله، ثم يخرج إلى الناس وقد اسود وجهه. ذلك الكتاب الذي لُطِّخ بالكبائر والمنكرات، ذلك الكتاب الذي لطخ بالنوم عن الصلوات، ذلك الكتاب الذي لُطِّخ بأذية المسلمين والغيبة والنميمة والكبائر، ذلك الكتاب الذي لُطِّخ بمخالفة السُّنَّة والدعوة إلى مخالفة إجماع الأُمة، ذلك الكتاب الذي خالفت في إملائه ما عليه أهل الصلاح.
فتقول حينها ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ | وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ | يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ | مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ | هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾.
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى رب العالمين.
أقول ما تسمع وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على عظيم توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد، معاشر المسلمين؛ ففي ذلك اليوم، هناك أقوام لهم موعد مع الله ﷻ. مقابل وجرَّاء أعمال فعلوها في هذه الحياة، أما صالحة وأما طالحة. فالصالح يعطَى على الصلاح، والطالح يعطى على معصيته ومخالفته.
أحوال العباد يوم القيامة
فمن تلك الأعمال -عباد الله- أن الله ﷻ يفرج كرب أناس يوم القيامة كانوا في هذه الحياة يفرجون كُرَب الناس. فهنيئا والله لمن فرَّج كرب المساكين والفقراء والمحتاجين والمعوزين.
قال نبيكم ﷺ «من فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة».
ومن أولئك -عباد الله- من يسَّر على المعسرين. فعبد أستُدين منه، ثم رأى أن صاحبه المدين عاجز عن سداد ذلك الدين، فتجاوز عنه أو أجَّل له أو وضع عنه. فإن الله ﷻ والله لن ينسى ذلك أبدا.
قال النبي ﷺ «ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة».
ومن أولئك -عباد الله- عبد ستر عبدا، رآه على معصية أو جريمة أو كبيرة أو منكر. لا يحب أن يعلمه الناس عنه. فكان ذلك العبد ساترا له. فإن الله لا ينسى ذلك أبدا، وسيسترك يوم القيامة.
قال نبينا ﷺ «ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة».
ومن أولئك -عباد الله- أن أُناسًا يُحشرون يوم القيامة لهم لسانان من نار. وهو ذلك العبد الذي يكون في هذه الحياة الدنيا له وجهان، يقابلك بوجه، ثم إذا غبت عنه أو غاب عنك كان بوجه آخر.
قال ﷺ «إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه».
ومن أولئك -عباد الله- ذلك العبد المتكبر. فإن الله -عز وجل- يحشره يوم القيامة رجلا، ولكنه في ميزان الذرة، وفي كبر الذرة، يطأه الناس بأقدامهم.
قال النبي ﷺ «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال».
هذه خاتمة المتكبرين يوم القيامة. الذين تعالوا على الناس بمناصبهم أو بثرواتهم أو بجاههم فذاك جزاؤهم، ويقول الله ﷻ في سورة الكهف ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
ومن الناس -عباد الله- من يؤمنه الله ﷻ يوم القيامة، لأنه كان خائفا من الله في الدنيا. ومن الناس من يخاف خوفا شديدا في القيامة لأنه عاش أمنا في الدنيا؛ يسمع الأذان فلا يهمه ولا يهب إلى الصلاة. يرى المرأة في الشارع، ينظر إليها لا يبالي. يسمع الحرام، يأكل الحرام، يمشي بالحرام، لن ينسى الله ذلك أبدا.
قال ربنا في الحديث القدسي ﴿وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين ولاخوفين. إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي﴾.
ومن الناس -عباد الله- من ذكرهم النبي ﷺ في الحديث الصحيح «إن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان بن فلان» أي بغدراته التي غدرها في هذه الحياة.
فذلك الموظف الذي يكون في جهةٍ ما ولَّاهُ ولي أمر المسلمين للقيام بمصالح الناس ولكنه لا يقوم بذلك إلا بمقابل من المال أو بهدية أو بالسعي له في أمر ينفعه. كل هذا من الغدر، وسيأتي هذا العبد يوم القيامة له لواء يُعرَف به؛ أنه غادِر. ولَّاهُ ولي أمر المسلمين، ولكنه غدر.
قال الرسول المصطفى ﷺ «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك».
ومن أولئك -عباد الله- أن أقواما يُصَب في آذانهم الآنك يوم القيامة؛ وهو الرصاص المذاب. قال رسول الله ﷺ «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه؛ صب في أذنه الآنك يوم القيامة».
ومن أولئك -عباد الله- أن بعض الناس يأتي وفي وجهه تفلة/بصقة. قال نبينا محمد ﷺ «تفل تجاه القبلة، جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه».
ومن أولئك -عباد الله- أن أُناسا يأتون أمرهم شديد، جسيم، خطير؛ يطوقون من سبع أرضين يوم القيامة. وفي رواية أنه يؤمر أن يحفر إلى سبع أرضين. وهو ذلك العبد الذي ظلم شبرا من الأرض. وما هو الشبر يا عباد الله؟ شبر، ولكنه عند الله عظيم، ولكنه في نفس صاحبه عظيم. يوم القيامة يؤمر بك فتطوَّق أن تحفر إلى سبع الراضين. قال النبي المصطفى ﷺ «أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي بين الناس».
فاتق الله يا من يأخذ أراضي الناس؛ يتمتع بها في الحياة الدنيا يسيرا، ولكنها ستكون عليك نكالا وعذابا وجحيما. أنت الآن فرحٌ مستبشر مسرور، ملكت أرضا وحويت دارا؛ ولكن عِش فيها ما شئت. فإذا وقفت بين يدي الجبار، لن ينتزعها الله منك؛ إنما تؤمر أن تحفر إلى سبع أرضين، أو تطوق بسبع أرضين.
ومن أولئك -عباد الله- من يأتي إلى الناس فيقص عليهم أحلاما وهو لم يراها من باب الخيال والكذِب. فإنه يؤمر يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل. كما قال ﷺ «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل».
وأحوال الناس في ذلك اليوم كثيرة، وأصنافهم مختلفة. ولكن العاقِل من قدَّم لذلك اليوم أعمالا يرى أنها منجية له بين يدي الله ﷻ.
فيا أيها المسلم، خَفْ يا من فرَّطت في الصلاة، في صلة الرحم، يا من تساهلت في الربا. خَفْ من الله يا عبد الله.
اعلموا أيها المؤمنون أن دنياكم هذه زائلة، وإن عافيتكم وصحتكم ذاهبة، ولن يبقى إلا العمل الذي ادخرته عند رب العالمين لن ينسى.
يقول الله ﷻ في سورة يس ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.
وعِند الله كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. والله إنه ليحصي الإشارة، ويحصي الكلمة، ويحصي الحرف، ويحصي العبارة. فلا تخاف أيها المظلوم ولا تأمن أيها الظالم.
ثم صلوا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال -عز من قائل كريم- ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
الدعاء
اللهم صل وسلم وزِد وبارك وأنعم على محمد بن عبد الله؛ صاحب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وعن أصحابه الطيبين الطاهرين الأئمة المهديين؛ الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم عليك بأعداء الدين أجمعين. اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. ونعوذ بك اللهم من الشقاق والنفاق وسيء الأخلاق.
اللهم إنا نسألك إيمانا كاملا ويقينا صادقا. ونسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم إنا نسألك يا ربنا أن تغفر ذنوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تشرح صدورنا، وأن تؤمننا يوم الفزع الأكبر برحمتك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
قدمنا لكم أعلاه خطبة عن يوم القيامة. ألقاها فضية الشيخ ابراهيم بن علي الضامري -جزاه الله خيرا-. تحدثت عن أهواله وعن بعض أصناف الناس فيه مع الاستدلال من الأحاديث النبوية المطهرة. تحدثت عن الحساب والجزاء، والوقوف بين يدي الله يوم الحساب؛ يوم العرض على الله.
نسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم وجميع المسلمين بهذه الخطبة وما جاء بها من مواعِظ وأخبار وإرشاد.
السلام عليكم
بارك الله فيك اخي ونفع بك
ولكن لماذا تم منع نسخ المحتوى لينتفع به