ما أجمل أن يكون الإمام على علم ودراية بما يشغل بال الناس ويشيع بينهم الخلافات؛ نعم، مثل ترك الأنعام سائبة. وهو عنوان خطبة اليوم؛ والذي نكثّف فيه الحديث حول ذلك الأمر الذي بات يُمثّل تهديدًا للممتلكات في بلداننا الإسلامية، والتي لم يتحدَّث عنه الكثير من الخطباء والأئمة على المنابر.
فهذه خطبة حول أضرار ترك الأنعام سائبة؛ نسأل الله ﷻ أن تنتفعوا بها جميعا.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أسبغ علينا النعم والعطاء، وامتن علينا بالهبات والآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد والثناء، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خير الأنبياء وأعظم الرحماء، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه الأتقياء الأوفياء.
أما بعد، فاتقوا الله – عباد الله – في جميع شؤونكم، واذكروه في كل أحوالكم {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ إن تنوع هذه الكائنات المسخرة للإنسان مظهر من مظاهر غنى الله المطلق، وآية من آيات وجوده، ومن تكريم الله لهذا الإنسان وكرمه عليه تسخيرها له، بل تسخير ما في السماوات وما في الأرض، ومن امتنان الله علينا قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وإن هذه الحيوانات التي أنتم لها مالكون هي من نعم الله عليكم التي لا تحصى، فانظروا كيف أن الله ﷻ ذللها لكم فجعلها تنقاد لكم كما تشاؤون، ولو شاء لجعلها متوحشة مثل تلك السباع التي لا يمكن الاقتراب منها؛ أفليس في السباع ما في حجم هذه الأنعام من إبل وبقر وغنم وضأن!
فمن الذي ذلل الأنعام وجعل السباع متوحشة؟ إنه الله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى | وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى | وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى | فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}.
وقد يرى الإنسان من الآيات ما يجعله يدرك تمام الإدراك أن الذي ذللها هو الله جل جلاله؛ فيتوحش الأليف من تلك الأنعام من إبل وبقر وغنم وضأن، فلا يستطيع الإنسان أن يقترب منه إلا بحيلة، وصدق الله – {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، – في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ | وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ | وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}.
وما أكثر تلك المنافع – عباد الله – في هذه الأنعام، وقد ذكر الله تبارك وتعالى شيئًا منها في مواضع متفرقة من الكتاب العزيز، فهي دفء للإنسان بما يتخذه منها من أصوافها وأوبارها وأشعارها من بيوت وأثاث، ومن امتنان ربنا جل جلاله علينا بهذه النعمة قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.
وانظروا – رحمكم الله – في تلك المأكولات المتنوعة التي تستخلص من لحومها وألبانها، فيخرج لنا كل يوم صنف مستخلص من لحم أو لبن {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}.
يقول الله ذاكرًا لنا هذه النعم العظيمة: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، ويقول ﷻ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}.
وتعالوا بنا – أيها المؤمنون – نتأمل في تذليلها للركوب حاملة هذا الإنسان وحاملة أثقاله، وقد تطورت الوسائل ولم يستعن الإنسان عن استعمال الحيوان في حمله وحمل أثقاله؛ فإن هناك من البلاد في هذا العالم ما لا يتهيأ لها استعمال وسائل النقل الحديثة، وإن من البلاد ما يشق أن تصل إليها وسائل النقل الحديثة فيستعمل أهلها الأنعام؛ ليتحقق قول الله ﷻ: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وأخذ الناس يستعملونها في السياحة ليركب عليها السائحون ويأخذوا صورًا ويبتهجوا ويفرحوا، وتكون في الحدائق والمحميات يراها الناس أنواعًا وأشكالًا رائين {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، رأي العين، لتتحقق منفعة الزينة التي امتن الله بها بقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
ولله ذلك المشهد الذي يسر الناظرين؛ عندما يرى الإنسان جمال تلك الأنعام وهي تسير جماعات خارجة إلى مراعيها أو راجعة منها، وقد ذكر الله هذه الصورة التي لا تزال تسر رائيها فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}.
واعلموا – عباد الله – أن الله ﷻ قد جعل هذه الحيوانات – التي أنتم لها مالكون – أمانة في أيديكم، فليس للإنسان أن يشق عليها بتحميلها ما لا تطيق، أو بعدم اطعامها ما يكفيها، وقد مر النبي ﷺ ببعير قد لحق ظهره ببطنه من شدة الهزال، فقال ﷺ: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة».
والواجب على من يتعهدها أن يتخذ لها مكانًا مناسبًا لها، وليس فيه ضرر على الناس من أصواتها وروائحها، وذلك من هدي النبي ﷺ وهدي أصحابه من بعده؛ فإن النبي ﷺ حمى النقيع لخيل المسلمين، أي جعله موضعًا للخيل تجعل فيه.
وإن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حمى الربدة لنعم الصدقة، ولا يصح أن تجعل سائبة بين مساكن الناس وفي طرقاتهم؛ فإن ذلك من الضرر على المساكن والسيارات والمزارع والطرقات والناس؛ فكم من دابة سائبة صعدت على سيارة لتكل من شجرة فألحقت ضررًا بتلك السيارة، وكم من مزارع دخلتها تلك السوائب من الحيوانات فحطمت تلك المزروعات وأذهبت جهدًا جهيدًا كان قد بذل فيها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
أيضًا هنا: خطبة عن الخدمة الوطنية.. شرف ومسؤولية
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه الغر الميامين.
أما بعد، فاتقوا الله – عباد الله -، وتنبهوا تنبه من يتدبر عواقب الأمور، وانظروا كم من دابة خرجت فجأة في طريق إنسان فاصطدم بها فذهب ضحيتها ذلك الإنسان ومن معه من أسرته أو الراكبين معه، أو أصيبوا في أبدانهم، أو ذهبت سيارته فأصبحت غير صالحة، والعجب أن تجد صاحبة تلك الدابة يتخفى حتى لا تلحقه عقوبة الدنيا، ونسي أو تناسى أن الله يعلمه، ويعلم أنه تسبب في قتل نفس أو ضياع مال أو ازعاج الناس {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}.
ولا شك أنه يلزمه الضمان، بل قد وصل الحال بتلك السوائب أن تتخذ جسور الطرقات مستظلًا لها، معترضة طريق الناس، مسببة لهم خطرًا وأي خطر!
وتراها وهي تسير على الجسور منتقلة من جهة إلى جهة أخرى؛ لذا لزم من أراد إخراجها إلى المراعي أن يرعاها أو يتخذ لها راعيًا يتعهدها؛ ليحفظها ويحفظ منها، وهذا أمر معهود لزومه؛ فقد أخبر الله في قصة موسى -عليه السلام- عن امرأتين تحبسان غنمهما عن الماء حتى تشرب غنم الناس فيسوقها رعاتها بعد ذلك عن مورد الماء فتشرب غنم المرأتين، يقول الله جل جلاله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ | فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، وكان النبي ﷺ يرعى الغنم لأهل مكة.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
وختامًا؛ نترككم مع مقترح: خطبة عن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة