مقدمة الخطبة
الحمد لله الرحيم، أكرم المؤمنين بالتيسير، وذم كل ما فيه تعسير على الناس أو تنفير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أحرص الناس على الرحمة، وأكثرهم شفقة بهم ورأفة، ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى كل من تبع نهجه إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن “الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا“، وكونوا خير عامل بهذا الدين الرحيم، الساعي إلى كل ما فيه تيسير على الناس، وبعد عن المشقة والعسر.
أيها المسلمون: اعلموا -حبب الله إليكم التيسير- أن معاملة الناس بلطف من أعظم القربات، والتيسير عليهم في شؤون دينهم ودنياهم قائد إلى الجنات؛ فأي شيء أحب إلى الله من تفريج الكرب، وفتح باب الأمل للناس بما أذن به الشرع، وسمحت به الظروف الدنيوية! وقد ذكر الله في كتابه أنه لا يكلف الناس فوق طاقتهم بما يعسر عليهم، فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وذكر هدي الدين القويم فقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وذكر إرادته تعالى للتيسير فقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وشرعه على المدين بالإمهال فقال: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾.
والنبي ﷺ قد أمر الناس بالتيسير حيث يقول: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، وهو باب واسع يشمل أمورا كثيرة، سواء أكان التيسير أمرا معنويا بالكلمة الطيبة، أم كان ماديا بعون المحتاج المعسر ونحوه.
أيها المحبون للتيسير: إن تعسير الإنسان على العباد يشمل أمورا كثيرة، وأصنافا متنوعة، ومن ذلك تعسير الإنسان على أهله وزوجه في النفقة مع قدرته على التيسير، قال تعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾، وإن الإنسان ليعجب من أمر من فتح الله عليه باب رزقه وكان شحيحا على والديه وزوجه وأولاده ممن ينبغي له التوسعة عليهم، وإسعادهم بتلبية حاجاتهم.
ومن التعسير كذلك الشدة في النصح، وعدم مراعاة الحكمة فيه، فإن الإنسان مطالب بالنصح؛ ف «الدين النصيحة»، مع امتثال آداب النصح التي منها: أن تكون نية الناصح إصلاح الخطأ لا التشفي والتعيير، وأن ينصح بلين ولطف: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وأن يكون نصحه سرا لا جهرا، بحيث يكون بينه وبين المنصوح، قال أحد العلماء: «إذا نصحت فانصح سرا لا جهرا، أو بتعريض لا بتصريح، إلا لمن لا يفهم؛ فلا بد من التصريح له».
ومن صور التعسير تعسير المعلم على طلابه، فإن عليه أن يعاملهم بأحسن معاملة، ويحبب إليهم العلم بأسلوب حسن، ووسائل جاذبة، قال أحد الصالحين: «ينبغي لمن قرئ عليه القرآن، فأخطأ فيه القارئ أو غلط، ألا يعنفه، وأن يرفق به ولا يجفو عليه، ويصبر عليه».
وإحدى صور التعسير على الناس الإطالة في الصلاة، قال ﷺ: «يا أيها الناس: إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة».
وهكذا -يا عباد الله- فإن صور التعسير كثيرة، وأمثلته وافرة، ومنها أيضا التعسير على الناس برفع أسعار البيع فوق حد القدرة، فعلى المسلم أن يكون هينا لينا، لا يكلف الناس فوق طاقتهم.
فاتقوا الله -عباد الله-، وعاملوا الناس باليسر واللين، والرفق والتخفيف؛ فـ«إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا: خطبة غزيرة الوعظ.. بعنوان: إن مع العسر يسرا
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي حبب إلينا الرحمة، فضلا منه ومنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، خير الناس للناس، وأبعدهم عما فيه تكليف لهم فوق طاقتهم، ﷺ وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: إن المتأمل لأمر التيسير على الناس سيجد له أثرا عظيما، وفوائد كثيرة، فإذا ما جئنا إلى التخفيف على المأمومين فإنا نجد فيه ما يحبب إليهم الصلاة فيجعلهم حريصين على أدائها في الجماعة، فأي فضل أعظم من هذا ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، والتاجر الذي يكون سمحا مع الناس بالتيسير ينال رحمة الله المذكورة في الحديث: «رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى، سمحا إذا قضى»، فضلا عن بركة تجارته في إقبال الناس عليه لحسن تيسيره.
وقِس على ذلك كل ما سبق ذكره من تيسير الزوج على زوجه، ونفقته على أولاده، وحسن النصح بين الناس وغير ذلك، فبهذا ينشأ جيل محب للآخر، شعاره التسامح، وأساسه التعاون، وقائده التيسير والتخفيف، ويقوى المجتمع، ويشتد عوده، ويتحد أبناؤه، ويتحاب أفراده.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن خير ما تستمسكون بعراه الأخلاق العالية، والصفات النبيلة، المستقاة من كتاب الله العزيز، وسنة نبيه الكريم ﷺ.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.