وفي رِحاب قول المولى ﷻ (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)؛ نُقدم لكم اليوم خطبة الجمعة، مكتوبة، جاهزة للاطلاع المباشر أو الحِفظ، أو الطباعة على أوراق.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم الوهَّاب، كتب الفلاح والفوز لمن أخضع نفسه للتزكية والإصلاح؛ فقال عز من قائِل (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الفتَّاح، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائِدنا محمدا عبد الله ورسوله، أسمى الناس أخلاقا وأفعالا، وأعدلهم أحوالا وأزكاهم أقوالا؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا أنفسهم وصدقوا، وأحبوا الخير فسارعوا إليه وسبقوا، ورضي الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أنزل الله ﷻ القرآنَ على قلب سيدنا رسول الله ﷺ، لتبليغ الناس رسالة ربه، قال الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ المائدة:67، والتبليغ إنما جاء بعد الأمر بالقراءة في أول آية نزلت من القران، قال الله ﷻ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ العلق:1، إنها قراءة ربانية، وليست قراءة مجردة عن التربية، وتكريمه ﷺ بالكاف في قوله (ربك)، دليل على أنه الله ﷻ هو الذي ربّى رسوله ﷺ وأدبه.
لقد بلغ رسول الله ﷺ الرسالة ، وأدى الأمانة، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ولذلك كان خلقه ﷺ القرآن في كل أحواله؛ سُئِلَتْ السيدة عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقالَتْ: “كان خُلُقُه القُرآنَ” رواه احمد، ليقتدي به صحابته رضي الله عنهم أجمعين الذين فتحوا قلوب العباد قبل البلاد ؛ لأن كل واحد منهم صار مصحفاً حيّاً يمشي على الأرض، مما جعل كلامهم أحلى الكلام في زمنهم وفي كل الأزمان لأنهم رضي الله عنهم كانوا ربانيين في لسان الحال والمقال.
وإذا تدبرنا صيغة الأمر في أفعال الكينونة في القرآن الكريم نجدها تدل على التحول الكامل في السلوك، وهو ما دلّ عليه فعل الأمر( كونوا) الذي يقتضي الوجوب في الطاعة دون تردد أو تساؤل، مما يستدعي الالتزام بما بعد الأمر الرباني فكان قوله: ( كونوا ربانيين) أي كونوا فقهاء علماء، قاله علي وابن عباس والحسن، وقال سعيد بن جبير رحمه الله ﷻ: الرباني : هو العالم الذي يعمل بعلمه. قال ابن عطية رحمه الله ﷻ : “جملة ما يقال في الرباني أنه العالم بالرب والشرع، المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس”.
وهذا المعنى ينبغي أن يكون في علماء الأمة في عصرنا ليكون التقدير دقيقاً، والمنهج واضحاً لا يخالف منهج الله ﷻ قِيد أنملة بحال؛ ليعود للأمة مجدها التليد حينما كان علماؤها ربانيين بما كانوا يعلمون الكتاب ويدرسونه ويتلونه حق تلاوته، والصحيح أن الربانيين نسبة إلى الرب ﷻ، وهو جمع رباني قال المبرد: “هم أرباب العلم سُمّوا به لأنهم يربون العلم، ويقومون به ، ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها”. قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه يوم مات ابن عباس رضي الله عنهما: “اليوم مات ربّاني هذه الأمة”.
ولا ريب أن الربانيين قد نالوا هذا الثناء بسبب كونهم عالمين دارسين، والحق أن العلم ثمرته العمل، فمن جمع بين العلم والعمل فهذا الموفق الذي وفقه الله ﷻ، وجعله من العلماء الربانيين الذين وصفهم الله ﷻ بالخشية، قال الله ﷻ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر:28، فليس المراد بهم في الآية الذين يحفظون المسائل والفروع، وإنما هم العارفون بالله ﷻ وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى فهم الذي يخشون ربهم ويتقونه.
قال الخازن في تفسيره دلت آية( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً، فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصد ضاع علمه وخاب سعيه .
إن أمة الإسلام ولاّدة بالعلماء الربانيين لا يخلو منهم عصر من العصور، ولا قرن من القرون، وهم الذين يجددون لها أمر دينها لتعود إلى دين ربها ﷻ، وهو وعد نبوي عظيم، قال رسول الله ﷺ: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” رواه أبو داود.
والمراد بالتجديد نهوض الأمة من ضعفها ، وهو مما يقوم به الربانيّون ، وهم حقيقة الذي حققوا أمر ربهم ﷻ في قوله ﷻ: ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ آل عمران 79
فالإنسان الرباني هو الذي وصل إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، وهو الإنسان الذي بلغ من الحكمة والعلم والفقه الدرجية العالية، وفي الآية الكريمة إرشاد من الله ﷻ إلى أن الإنسان مهما بلغ من المراتب العالية، في العلم والمكانة عليه أن يتواضع لله ﷻ، فلا يصيبه الكبر والغرور، بل يستشعر فضل الله ﷻ عليه ونعمته، وأن ينسب الفضل لصاحب الفضل الحقيقي وهو الله ﷻ الذي منّ عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وأن يكون هذا الشعور دافعاً له لبذل المزيد من العطاء في المجتمع، والإقبال على نشر الخير والمعرفة في الأمة، فالأنبياء والمرسلون مع بلوغهم الدرجات العالية، والفضائل التامّة، والكمال البشري، نراهم في غاية التواضع لله ﷻ، ويوجهون الناس إلى عبادة الله ﷻ.
فلإنسان الرباني هو الذي تظهر آثار إيمانه على سلوكه وتصرفاته، والرباني هو الذي تظهر علامات الإيمان ومعالم إيمانه في جميع أحواله، لذلك كان من أهم معالم شخصية المؤمن كما ذكرها الله ﷻ في سورة “المؤمنون” ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ المؤمنون: 1-2، كانت هذه علامة من علامات المؤمنين، الذين هم في صلاتهم خاشعون، فإذا أراد المؤمن أن يتقرب إلى الله ﷻ بالصلاة فلا بد أن تكون صلاته خاشعة خالصة لله ﷻ، وأن يتوجه إلى الله ﷻ في صلاته بقلب خاشع متصل بالله ﷻ.
ثم قال الله ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ المؤمنون:3، هذه من صفات المؤمنين أيضاً أنهم عن اللغو معرضون، صفة عظيمة لا بدّ للمؤمن أن يتحلى بها ليصبح ربانياً لتكتمل شخصيته الإيمانية، وهي الإعراض عن اللغو، وإذا كان الوقوع في اللغو مما يُنقص الإيمان فكيف بمن وقع في الكذب والتزوير، وتشويه الحقائق، وبث الرعب بين الناس، فالمؤمن هذه صفاته في القرآن الكريم، والنبي ﷺ في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أخذ بلسان معاذ وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فقال «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» ، فقال معاذ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» سنن الترمذي.
إن الأمة بحاجة ماسة للربانيين الذين حققوا في حياتهم مقام الإحسان بالطاعات، فإذا دعوا استجاب الله لهم، ويجب على المسلمين اليوم، الرجوع إلى دينهم وطاعة ربهم والاقتداء برسولهم ﷺ، وتوقير العلماء الربانيين لمكانتهم عند ربهم الذي أكرمهم بالعلم والعمل والتقوى، فإن الموت يقين يأتي في ساعة وعند وقوعه ولات حين مندم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.
ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”.
ومن قال: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، “أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..