خطبة سلسة البيان بعنوان «ولكنكم تستعجلون» مكتوبة كاملة

خطبة سلسة البيان بعنوان «ولكنكم تستعجلون» مكتوبة كاملة

مقدمة الخطبة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله… الحمد لله الذي أمرنا بالصَّبر وحثَّنا عليه، وحذرنا في كتابه الحكيم وفي سنة رسوله الكريم من الاستعجال. فكم منا يستعجل في أمور دنياه، وكم منا يتوق إلى النتائج السريعة دون أن يبذل الجهد الكافي.

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون: لقد حذّر النبي ﷺ من الاستعجال المذموم. بقوله ﷺ: (ولكنكم تستعجلون). والاستعجال: هو استبطاء الإجابة، والتذمر من عدم تحقق المراد، والله ﷻ لا يرضى أن يضيق قلب عبده المؤمن به. قال ﷺ: (يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) رواه البخاري ومسلم.

عباد الله: إن البلاء سنة ماضية من سنن الله في خلقه. يقول الله ﷻ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[ العنكبوت: 2]. فالمرء يبتلى على قدر دينه. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ) أخرجه الترمذي.

ولما كان صحابة النبي ﷺ من أكمل الناس بعد الأنبياء، كان بلاؤهم شديداً، ومحنتهم عظيمة. روى خبّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ (فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). أخرجه البخاري.

هذا الحديث عظيم، فيه من دلائل النبوة ما يجعل المؤمن يوقن بأن الله ﷻ ينصر عباده إذا نصروا دينه. ليثبتوا على ما هم فيه، ويصبروا على البلاء، ثم بشرهم ﷺ بنصر الله ﷻ لهم. يقول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[ محمد: 7]. وهو ما حققه أصحاب رسول الله ﷺ بتوكلهم على الله طاعة له ﷻ ولرسوله ﷺ.

وتأخر الفرج قد يكون لأسباب وحِكَمٍ يعلمها الله ﷻ. وقد يكون بسبب تقصير منّا في حق ربنا ﷻ، فالفرج من الله ﷻ منوط بترك المعاصي والذنوب، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن. يقول الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف: 33.

وروى الشيخان عن زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها: أن النبي ﷺ دخل عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب، مِن شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثُر الخبث “أي المعاصي) رواه البخاري ومسلم.

فاحذروا عباد الله ذنوب الخلوات، كالزنا والنظر إلى المواقع الإباحية والسرقة والرشوة، والقيل والقال، والكذب والنميمة، وأكل الحرام، وشهادة الزور.

قال ابن المعتز:

خلِّ الذنوبَ صغيرها
وكبيرها فهو التُّقى

كن مثل ماشٍ فوق
أرضِ الشَّوْك يحذرُ ما يرى

لا تحقِرَنَّ صغيرةً
إنَّ الجبالَ مِن الحصى

وقد يكون تأخر النصر لقلة الاستعداد، فالتوكّل على الله ﷻ بطلب النصر والتأييد لا ينافي الأخذ بالأسباب. يقول الله ﷻ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ…﴾[ الأنفال: 60]. ومن أعظم وسائل الإعداد والأخذ بالأسباب، اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، وتآلف القلوب، وإعلاء مصلحة الدين والأمة والوطن على المصالح الشخصية، ونبذ الفرقة والخلاف والعصبية.

وقد يكون تأخر النصر بسبب عدم الصبر، فالنصر لا يتحقق إلا بالصبر، والصبر أنواع، صبر على البلاء في الضراء، وصبر على ملازمة الطاعات في السراء والضراء، وصبر على تجنب المعاصي، فإن الله ﷻ لا يرضى لعباده الوقوع في المعاصي، قال الشاعر:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبُّك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع

ورضي الله ﷻ عن الصحابي عتبة بن غزوان الذي قال في خطبته الشهيرة: “ولقد رأيتُني سابعَ سبعة مع رسول الله ﷺ وما لنا طعامٌ إلاَّ ورقُ الشجر حتى قَرِحَتْ أشداقُنا فالتقطتُ بُردةً فشققتُها بيني وبين سعد بن مالك فائتزرتُ بنصفها، وائتزرَ بنصفها، فما أصبحَ اليومَ أحدٌ منا حيًّا إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله من أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الله صغيراً..”

عباد الله: إنَّ التاريخ خير شاهد على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستعجلوا بعد قوله ﷺ: (ولكنكم تستعجلون). فأحرى بنا معشر أمة الإسلام في هذه الأيام ونحن نُبتلى في أنفسنا وأولادنا وأموالنا وجميع مناحي حياتنا. أن نتوب الى الله، وأن ننتصر على الأنفس والشهوات، وأن نبتعد عما حرم الله وأن لا نستعجل، وأن نوقن بأن نصر الله لدينه واوليائه محقق.

ومنْ أحبَّ الله ﷻ وأحبَّ رسوله ﷺ يصدق ويوقن بأن وعد الله يقين، وأن ما أخبر به سيدنا رسول الله ﷺ سيتحقق، وأن الله ﷻ يورث الأرض عباده الصالحين. يقول الله ﷻ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [سورة النور: 55]

هذه أيضًا ⇐ خطبة: فضل الصبر على البلاء وأسباب دفعه «مكتوبة» مُحْكَمة

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ سورة آل عمران:102.

أيها المؤمنون، إن الله ﷻ يعلم ما في نفوسنا، ويعلم أننا نرغب في الخير ونسعى إليه. ولكن علينا أن نصبر على ابتلائه، وأن نرضى بقضائه وقدره. فالصبر مفتاح الفرج، والرضا سبيل السعادة. فلتكن صبرنا جميلاً، ورضانا كاملاً، وليكن شعارنا دائماً: “إن مع العسر يسرًا“.

أيها الأحبة، إن الله ﷻ قد أنعم علينا بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى. فلنشكر الله ﷻ على نعمه، ولنصبِر على ابتلائه. ولنتذكر أن الدنيا دار ابتلاء، والآخرة دار جزاء. فلتكن حياتنا كلها عبادة لله ﷻ، وشكرًا على نعمه.

والحمد لله ربّ العالمين

أضف تعليق

error: