في الأوَّل من مايو من كل عام، نسمع مُسمّيات؛ مثل: عيد العمال – يوم العمال العالمي. ونحن نُذَكركم بقول الله ﷻ ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾. بل وبغيرها من الآيات في القرآن الكريم والأحاديث النبويَّة في السُّنَّة المُشرَّفة، بل وما كان من أعمال وأقوال الصحابة ثم التابعين، ثم السَّلف الصَّالح.
عمومًا، هذه خطبة جمعة –مكتوبة– رائِعة، بهذا العنوان المُبارَك، نسأل الله ﷻ أن تنتفعوا بها.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي هدانا إلى الطريق الأقوم، وأرشدنا إلى ما فيه صلاح الفرد ورقي الأمم، أحمده سبحانه بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، ثناء يوافي نعمه، ويكافئ مزيده.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله، أرسى دعائم الحضارة، وأسس أركان المجد، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن ترسم خطاهم وسار على دربهم إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
لقد حَثّ الإسلام على العمل، وعدّ العمل الصالح شرفاً للمؤمن، فلا يكتملُ إيمان المسلم إلا به، ولا يقتصر العمل على العبادات والطاعات فقط، بل كلُّ عمل يُقصد به وجه الله ﷻ والنفع للامة يعتبر قربة من القربات، قال الله ﷻ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ التوبة: 105.
وقال ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» ← رواه البخاري.
فالمسلم يعيش في هذه الحياة بين العبادة والسعي لها، قال الله ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ الملك: 15، وقال ﷻ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الجمعة: 10.
فكما أمر الإسلام بالتبكير لأداء الصلوات وصلاة الفجر خاصة، فقد عدّ التبكير للسعي للحصول على الرزق فيه مضاعفة للأجر والمثوبة، فطلب الرزق في الصباح من الاعمال التي يبارك الله ﷻ فيها لعباده؛ لأن الأرزاق توزع في هذه الأوقات، فعن صَخْر بن وَدَاعَة الغامدي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «اللهمّ بارك لأمتي في بُكُورها» ← رواه أبو داود والترمذي.
وكان النبي ﷺ إذا بعَث سَرِيَّةً أو جيشًا بعَثَهم من أوَّل النهار، وكان صَخْر تاجرًا، وكان يبعث تِجارته أوَّل النهار، فأَثْرَى وكثُر مالُه”.
لقد شرف أُولوا العزم من الرسل، باحتراف مهن يعيشون من كسبها، ويستغنون بها عن سؤال الناس، فها هو سيدنا داود عليه السلام كان يحترف حرفة الصناعة، قال الله ﷻ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ سبأ: 10، وهذا نوح عليه السلام كان يحترف النجارة وصناعة السفن، قال الله ﷻ: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ هود: 37.
وهذا سيدنا موسى عليه السلام عمل اجيراً في أرض مدين برعاية الغنم قبل بعثته، وسيدنا محمد ﷺ كان يرعى الغنم في صدر شبابه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «ما بعَثَ الله نبيًّا إلا رعى الغنمَ، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكةَ» ← رواه البخاري.
ثم عمل ﷺ بعد ذلك بالتجارة بمال السيدة خديجة رضي الله عنها.
وَما طَلَبُ المَعيشَةِ بِالتَمَنّي
وَلَكِن أَلقِ دَلوَكَ في الدَلاءِ
تَجِئكَ بِمِلئِها يَوماً وَيَوماً
تَجِئكَ بِحَمأَةٍ وَقَليلِ ماءِ
وَلا تَقعُد عَلى كُلِّ التَمَنّي
تَحيلُ عَلى المَقدَّرِ وَالقَضاءِ
فَإِنَّ مَقادِرَ الرَحمَنِ تَجري
بَأَرزاقِ الرِجالِ مِنَ السَماءِ
مَقدَّرَةً بِقَبضٍ أَو بِبَسطٍ
وَعَجزُ المَرءِ أَسبابُ البَلاءِ
هذا وقد رغب النبي ﷺ أصحابه بالعمل، وأن يحترفوا الحرفة التي تغنيهم عن سؤال الناس، عن عبد الله بن عمر –رضى الله عنهما– أن النبي ﷺ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله ﷻ وليس في وجهه مُزْعَة لحم» ← متفق عليه.
وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة»، بل عدّ النبي ﷺ العمل لكسب الحلال بمنزلة الجهاد في سبيل الله. يقول القرطبي –رحمه الله ﷻ– في تفسير قول الله ﷻ: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المزمل: 20.
لقد سوَّى الله ﷻ في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله.
لقد نال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم العلم، فحققوا العمل الجاد المفيد في حياتهم واقتدى بهم علماء الأمة في كل المعارف والعلوم، ونحن في هذا العصر يلزمنا أن نتقن العمل في الطاعات وفي المعاملات، في المساجد طاعة لله ﷻ وفي المصانع لتحقيق مصالح الأنام في كل مناحي الحياة، فمن الجميل أن يكون لكل مسلم حرفة يكسب بها معيشته، لأننا مأمورون بأن نكون اليد العليا لا اليد السفلى في حياتنا.
إن الإسلام لم يحث على العمل فحسب؛ بل وجه الى إتقان العمل والتميز به، كونه عبادة وطاعة، قال ﷺ: «إنَّ اللهَ ﷻ يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ» ← رواه الطبراني.
فإتقان العمل والتميز به واختيار أصحاب الكفاءة والقوة والأمانة واجبٌ شرعي، قال الله ﷻ على لسان ابنت شعيب عليه السلام: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ القصص: 26.
لذلك مدح الله ﷻ المؤمن القويُّ بأنه خير وأحب إليه من المؤمن الضعيف، عنْ أبي هُريرةَ –رضْيَ اللهُ عنه– قالَ: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ» ← رواه مسلم.
فبهذه الصفات تقوى الأمم والشعوب، وتستقيم حياة الافراد والمجتمعات، وبغير ذلك تكون الامة عالة على غيرها من الأمم، فيضعف كيانها، وتذهب ريحها وخيريتها التي أرادها الله لها، بقوله ﷻ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ آل عمران 110.
إن من مقومات نجاح الأعمال أن يشعر العامل بالمسؤولية، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه» ← متفق عليه.
ولما طلب أبو ذر رضي الله عنه الامارة، قال له ﷺ: «إنها أمانةٌ وإنها يومَ القيامةِ خزيٌّ وندامةٌ إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها»، فالشعور بالمسؤولية واجب أخلاقي لا تبرأ ذمة العامل إلا به.
ولأهمية العمل واستمراريته، فقد رغب الإسلام المؤمن بديمومة العمل وإن قامت الساعة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها» ← رواه احمد.
إننا في أردن الرباط قد رابط الجميع في طلب العلم ونشر المدارس العلمية والمهنية وغيرها، فأصبح الأردن بنشاط أبنائه الأبرار مركزاً علمياً عاملاً يزوره الراغبون بالعلم الشرعي والعلم التقني، ويتقاطر الكثيرون لدراسة العلوم المهنية، ليعودوا إلى بلادهم محترفين عدة حرف فاعلة في حياة الناس، فلنحافظ على العمل بجميع أشكاله وصوره الدينية والدنيوية لا نفرط بأي منها، ليظل بلدنا موئل العلم والعمل، ليرى الله عملنا ورسوله ﷺ والمؤمنون.
وهذه –يا أفاضِل– خطبة: الحث على العمل ومكانته في الإسلام
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”، ومن قال: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”، ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، “أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..
لدينا أيضًا هنا خطبة العمل شرف.. مكتوبة ومشكولة الآيات ومنسَّقة