ألا زِلت بحاجة لمزيد من خطب الجمعة التي تتحدَّث عن شهر شعبان يا صديقي الخطيب؟ حسنًا، إذا كانت إجابتك “نعم”، فأوصيك بإكمال الاطلاع؛ وإذا كانت الإجابة “لا”، فلن يضُرك قراءة هذا الوعظ والإرشاد البليغ لواحد من أكابر الخطباء المسلمين؛ وهو فضيلة الشيخ خالد بن عبد الله المصلح –جزاه الله خيرا–.
اخترنا عنوانًا لهذه الخطبة؛ وهو: وقفات مع شهر شعبان. فما رأيك؟! مهلا، لا تُجبني قبل أن تقرأ الخطبة أولا، وسأكون شاكر لك أي ملاحظات.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
وأشهد ألا إله إلا الله ربّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرّحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فاتقوا الله أيها المؤمنون، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران].
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ إنَّ تقوى الله ﷻ هي أن يحمل الإنسان نفسه على طاعة الله ﷻ، وأن يكفها عن معاصيه ومغاضبه، وأن يرجو في الفعل والترك – في فعل الطاعة وترك المعصية – الثواب من الله ﷻ، فيكون راغبا،راهبا، هكذا يكون العبد من المتقين اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأولئك الصالحين.
أيها المؤمنون؛ إن النفوس تحتاج إلى ترويض وتهيئة وتمهيد لتقوم ما أمرها الله ﷻ به؛ ولذلك كان من حكمة الشَّارع ومن حكمة الشريعة وبديع هذا التشريع الحكيم أن هيا النفوس للطاعات وأن أمرها بالمبادرة إلى ما يُعينها إلى ما فرض الله ﷻ عليها، فرض الله ﷻ ألوانا من العبادات، ففرض الصلاة وفرض الزكاة وفرض الصيام وفرض الحج، هي أركان وأصول تُبنى عليها الشريعة، هي الدعائم التي تقوم عليها هذه الملة في الأعمال الظاهرة، فكان على المؤمن أن ينظر إلى تلك الشرائع والأركان نظرة إجلال وتقدير وتعظيم، ذلك أنه إذا قام بهذه الأركان كان قيامه بغيرها من شرائع الإسلام على أيسر على ما يكون، وأسهل ما يتيسر؛ فلذلك يجب على المؤمن أن يتهيأ للعبادات لما يكون عونا له على القيام لها والإتقان لها على الوجه الذي يرضاه الله ﷻ.
فهذه الصلاة صلة بين العبد وربه يقف بها العبد بين يدي الله ﷻ خاشعًا قانتا راجيا خائفا راهبا راغبا؛ يرجو ما عند الله ﷻ، ويؤمل عطاءه ونواله وإحسانه، يؤمل جنة عرضها السموات والأرض، يخشى نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى، هذه الصلاة هي التي بها ينجو العبد يوم القيامة، فكان من حكمة الله ﷻ أن جعل من التهيئة لهذه الصلاة ما إذا جاء العبد إلى الصلاة المفروضة كان قد حضر قلبه واستقام فؤاده واستعدت نفسه لما فرض الله ﷻ عليه فهيأ لها من السنن السابقة ما يكون عونا للعبد على استحضار عظيم هذه الشريعة، فإذا جاء وقت الصلاة شُرع للعبد أن يبادر للمسجد وأن يصلي ركعتين فكما قال النبي ﷺ: «بين كل أذانين صلاة» يمكث بعدها ينتظر الصلاة، والملائكة تظاهره وتدعو له بالمغفرة وتدعو له بالرحمة، كل هذا تهيئة للقلب حتى إذا جاءت الفريضة، كان قلبه قد حضر، وفؤاده قد قام على الوجه الذي يمكن أن يستشعر عظم هذه الفريضة، وأن يؤديها على الوجه الذي يرضاه الله ﷻ عليه، ثم شرع له بعد ذلك من النوافل ما يكمل به النقص الحاصل.. وهكذا في سائر العبادات.
فالصوم فرض الله ﷻ الصوم على عباده؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة]، وشرع مما يكون بين يدي الصوم من التهيئة والاستعداد ما هو عون للعبد على استقبال فريضة الله ﷻ عليه بالصوم فيكون قد تهيأت نفسه وتمرن بدنه على القيام بما فرض الله ﷻ، فكان النبي ﷺ يصوم شعبان تهيئة لرمضان، هكذا جاء في السنة قالت عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها–: ما رأيت النبي ﷺ استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان.
هكذا كان النبي ﷺ يمرن نفسه ويهيئها للقيام بالطاعة والإحسان، فإذا جاء الفرض كانت النفس قد تهيأت واستعدت لما فرض الله ﷻ على وجه يرضى به الله سبحانه وبحمده، وقد كان سلف الأمة الصالح يعقلون هذا ويدركونه، فكانوا في شهر شعبان يُحدثون من العبادات والنشاط بالطاعة والإحسان ما يهيئهم لنشاط رمضان؛ حتى تتمرن النفوس وتتعود.
ولذلك سُمِّي هذا الشهر في كلام كثير من السلف شهر القرآن، ولذلك أنهم كانوا يقبلون على قراءة القرآن الكريم فيه استعدادًا للقراءة التي تكون في رمضان.
وهذا الاستعداد هو الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، وأن يتأهب له، فإنه الاستعداد الذي ينفع ويبقى.
وأما حال كثير من الناس اليوم فإنهم عكسوا القضية فهم يستعدون لرمضان؛ لكنهم يستعدون له بالأزودة والأطعمة وأنواع القوت الذي يُشغل كثيرا عن طاعة الله ﷻ، يُشغل النساء بالإعداد والتهيئة، ويملأ البطون بما هو خلاف مقصود الصيام؛ فإن مقصود الصيام أن يذوق الإنسان الجوع فيتخفّف بذلك من شهوة النفس وحظها ويقبل على طاعة الرب ﷻ والقيام بحقه.
أيها المؤمنون إن شهر شعبان شهر مبارك فيه هذه الشعيرة العظيمة التي كان رسول الله ﷺ يخصه بها وهو صوم النفل والتطوع، تهيئة لرمضان، فهيئوا قلوبكم لاستقبال الشهر بالطاعة والإحسان، هيئوا قلوبكم حتى إذا جاء وقد مرنت أجسامكم وتعودت أقدامكم وذلّت ألسنتكم بقراءة القرآن والقيام بفرائض الله ﷻ وشرائعه.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وهذه خطبة: شعبان شهر يغفل الناس عنه
الخطبة الثانية
الحمد الله حمد الشاكرين، أحمده ﷻ، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله ﷻ حق التقوى، استدركوا أعماركم بالأعمال الصالحة، استدركوها بما تفرحون به وتلقون به ربكم وأنتم في غاية السرور والبهجة، استدركوها بكل حسنة تستطيعونها، وتخفَّفوا من كل سيئة فإنَّ السيئات لها من الشؤم ما يود العبد ألا يكون قد خلف سيئة أو قدم خطيئة، اللهم اعف عنا واغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها صغيرها وكبيرها علانيتها وسرها.
أيها المؤمنون ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، هكذا قال ربكم ﷻ فأعظم ما تُذيب به السيئات أن يكون العبد مشتغلا بالصالحات ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:82]، فبادروا أيها المؤمنون بالأعمال الصالحة واجتهدوا فيما يقربكم إلى الله ﷻ واعلموا أن الله ﷻ كريم عظيم يعطي على القليل الكثير.
أيها المؤمنون إن هذا الشهر شهر فيه من الخير ما هو ظاهر في سنة النبي ﷺ من تخصيصه بالصوم، وقد أحدث فيه أقوام جملة من الأحداث: فمن ذلك أنهم ظنوا أن هذا الشهر تكتب فيه الآجال وتقدر فيه الأقدار وليس في السنّة ما يؤيد هذا الاعتقاد ولا ما يؤازر هذا الظن بل هو قول لبعض أهل العلم لا يستند إلى حديث ثابت، فالله ﷻ قدَّر الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء ذلك في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، وقدّر ما يكون من أقدار الخلائق عند خلقهم، فإنه إذا نفخ في العبد في رحم أمه يقول الملك: ما أكتب؟ قال: اكتب أجله شقي أو سعيد وعمله، وهكذا تكون الكتابة في رحم الأمهات، إلا أن الكتابة لا تقتصر على ذلك، فيثبت الله ﷻ ما يشاء ويمحو سبحانه وبحمده ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد]، ولكن هذا الشهر ليس فيه تخصيص للتقدير، إنما جاء التَّقدير الحولي؛ أي التقدير الذي يكون لحوادث العام في ليلة القدر كما قال الله ﷻ فيها؛ أي في ليلة القدر ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان]، وهذا هو التقدير الحولي.
فذكرنا مما تقدم أن التقدير يكون قبل الخلق بخمسين ألف سنة كما يكون عند نفخ الروح، ويكون تقدير عند عام في ليلة القدر، وهناك تقدير يومي هو الذي أشار إليه ربنا ﷻ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن]، وما من شيء من أعمال الخلق إلا وهو بقدر الله ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر] إلا أن هذا القدر قدر عظيم يجب الإيمان به أن ربَّنا ﷻ علم الأشياء قبل خلقها كما أنه سبحانه وثق هذا العلم بالكتابة، فما من شيء إلا قد كتبه الله ﷻ، ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ [الحديد:22] أي من قبل أن نخلقها، فالله ﷻ كتب مقادير الأشياء قبل الخلق، ثم من رحمته أنَّه لا يكون شيء إلا بمشيئته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن سبحانه وبحمده، ثم إنه ما من شيء إلا هو خلق ربنا ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ولا يتم إيمان عبد إلا إذا تمت هذه الأصول أن يعلم أن الله ﷻ عالم بالأشياء قبل كونها، وهو قد كتبها سبحانه وبحمده، ثم هو قد شاءها ﷻ، وهو الذي خلقها والقدر سر الله في خلقه لم يُطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا؛ بل هو رحمة الله وحكمته ﷻ يجب على المؤمن أن يؤمن بأن الله لا يظلم الناس شيئا.
روى الإمام أبو داوود وأحمد وغيرهما من حديث عبد الله بن فيروز الديلمي قال: كان في نفسي شيء من القدر فجئت إلى أبي بن كعب فقلت: إنّ في نفسي شيئا من القدر فحدثني حديثا لعل الله أن يذهبه عني.. فقال له أبي بن كعب: إن الله ﷻ لو عذَّب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من عملهم. ثم قال: واعلم أنك لو أنك أنفقت مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله لم ينفعك ذلك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطك لم يكن ليصيبك. وما لم يقدره الله عليه لا يمكن أن تناله وأن تدركه ولو اجتمع لذلك أهل السموات والأرض. فيجب على المؤمن أن يطمئن، وأن يملأ قلبه بتعظيم ربه واللجأ إليه وتحقيق العبودية له، فإن ذلك من أعظم ما تنشرح به الصدور، وتنال به السعادة، وتستمطر به الخيرات تستدفع به البليات.
أيها المؤمنون؛ ليلة النصف من هذا الشهر لم يثبت في فضيلتها حديث، فليست محلا للقيام كما يومها لا يخصص بصوم خاص؛ بل صامه في جملة صيام شعبان أو صامه لأنه من الأيام البيض كان موافقا للسنة؛ لكن من صامه تخصيصا له بأنه هو اليوم الذي تُقضى فيه الأقدار، أو اليوم الذي يطلع الله فيه على أعمال الخلق فيغفر لمن شاء إلا المشرك والمشاحن، فإنه لم يصب السنة؛ لأن ذلك لا دليل عليه؛ كما أنه ليس هناك نهي صحيح في أن يصوم الإنسان بعد النصف من شعبان، فما جاء من حديث أبي هريرة: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» حديث لا يصح؛ بل الثابت عنه ﷺ أنه قال: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين».
ونجِد هنا: خطبة عن فضل شهر شعبان «الصحيح والضعيف»
الدُّعـاء
- اللهم ألهمنا رشنا وقنا شر أنفسنا واستعملنا في مراضيك وخذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى.
- اللهم بلغنا رمضان، ورازقنا فيه صالح الأعمال.
- اللهم بلغنا رمضان وارزقنا فيه ما تحب وترضى يا رب الأرض والسماء.
- اللهم بلغنا رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام وسائر الصالح من العمل إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام.
- ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
- اللهم إن النفوس تحتاج إلى ترويض وتهيئة وتمهيد لتقوم ما أمرها الله ﷻ به آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا حي يا قيوم.