وفي ضوء وروحانيَّة الآية الكريمة ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ نُلقي خطبة الجمعة لهذا الأسبوع؛ وهي تلك المبارَكة التي نتناول من خلالها ما حثَّت عليه هذه الآية الكريمة -وغيرها من الآيات والأحاديث في كتاب الله وسُنَّة حبيبه ومُصطفاه سيدنا رسول الله ﷺ- وهو أمر التوبة والأوبة والإنابة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷻ ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾. فهو القائِل ﷻ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾.
الخطبة الأولى
إن المؤمن الفطن الحريص على رضى مولاه ﷻ، لا يغفل عن محاسبة نفسه ومراجعتها، بل هو كالتاجر الحاذق في هذه الدنيا الذي يحرص على مراجعة حساباته في كل عام، حتى يزيد من أرباحه، ويعلم مواطن ضعفه وعجزه فيجتنبها هارباً من الخسارة والندم، فإن حرص المؤمن في تجارته مع الله ﷻ أعظم شرفاً، وأكبر قدراً، وسلعتها نفيسة لا تقدّر بثمن، يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
ويقول النبي ﷺ: «أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ» — سنن الترمذي.
لذلك كان المؤمنون المتاجرون مع الله ﷻ، هم أحرصُ الناس على مراجعة حساباتهم مع الله ﷻ، في كل وقتٍ وكل زمان.
فالإنسان مهما بلغت درجة إيمانه فإن العصمة عن الخطأ لا تكون إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالوقوع بالخطأ والزلل هو من طبيعة النفس البشرية المُقصرة، لذلك جعل الله ﷻ الاستغفار ممحاةً للذنوب، والتوبة دواءً لعلل القلوب، يقول النبي ﷺ «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» — سنن الترمذي.
وقال أيضا: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» — صحيح مسلم.
وقد قال الصالحون: “إِنَّمَا مَرَضُ الْقُلُوبِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَصْلُ الْعَافِيَةِ أَنْ تَتُوبَ”، يقول ابْن جرير التائبون هم الراجعون عَمَّا يكرههُ الله ويسخطه إِلَى مَا يُحِبهُ ويرضاه.
والحق أن التوبة وملازمة الاستغفار هي سفينة النجاة التي يقودها المؤمن في بحرٍ لُجّي من الشهوات، وفي أمواج من الذنوب والخطايا، يخوضها الإنسان في رحلة عمره ليقوده إلى شاطئ النجاة عند الله ﷻ، فمن تمسك بحبل الله المتين، وقاد سفينته بشراع الإيمان، وتوجه إلى الله بكمال اليقين والإحسان، نال الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة، يقول النبي ﷺ: «من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» — سنن ابن ماجه.
فسارعوا يا عباد الله بالتوبة لمولاكم، وداوموا المكوث على أبواب الرحمة والمغفرة لعلها تُفتح لكم، يقول ابن الجوزي رحمه الله ﷻ: “يَا نَادِمًا عَلَى الذُّنُوبِ أَيْنَ أَثَرُ نَدَمِكَ، أَيْنَ بُكَاؤُكَ عَلَى زَلَّةِ قَدَمِكَ، أَيْنَ حذرك من أليم الْعِقَابِ، أَيْنَ قَلَقُكَ مِنْ خَوْفِ الْعِتَابِ، …، يا هذا، اكْتُبْ قِصَّةَ الرُّجُوعِ، بِمِدَادِ الدُّمُوعِ، وَاسْعَ بِهَا عَلَى قَدَمِ الْخُضُوعِ إِلَى بَابِ الْخُشُوعِ”.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك رب، كما أمرت، تضرعاً
فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا
وجميل عفوك ثم أني مسلم
وليعلم المؤمنون، أنه لا يجوز لصاحب ذنب أن يقنط من رحمة الله، فإن في ذلك إساءة ظنٍّ بالله ﷻ [والعياذ بالله] فهما بلغت ذنوب الإنسان عظمةً فإن عفو الله ﷻ أعظم منها إن جاءه المسلم مقرّاً معتذراً تائباً، فإن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له، وقد جاء في الأثر: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: 53، وقد جاء في الأثر: “لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار”.
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ ﷻ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً » — سنن الترمذي.
وعن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ أُحَدِّثُهُ، فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ” مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ ” قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» — قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» — ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: «عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» — قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ يَجُرُّ إِزَارَهُ وَهُوَ يَقُولُ: ” وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، قال أبو عبد الله: هذا عند الموت، أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غفر له، متفق عليه.
فإذا كان ارتكاب الذنوب والمعاصي دليل على استهانة الإنسان بحقّ الله ﷻ، وعظيم قدره، وإنكار نعمه الظاهرة والباطنة، فإن التوبة والاستغفار، لهي دليل على الحياء من الله ﷻ، وشعور بالتقصير والعودة إلى الطريق المستقيم، لذلك فإن التوبة من الذنب ترفع قدر صاحبها عند الله ﷻ، يقول ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
يقول ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: ” رب معصية أورثت ذلًا وافتقارًا، خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا”،
واعلموا يا عباد الله أن التوبة لا تقتصر على الإقلاع عن الذنوب، بل هي من صفات الأنبياء والأولياء، لذلك أمر الله ﷻ بها المؤمنين الذين يعظّمون أمر الله ﷻ، فقال ﷻ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فالمؤمن يرتقي بتوبته وكثرة استغفاره لوصول أعلى درجات الإيمان، وحتى يتحقق معنى التقوى في قلبه، ويبلغ مرتبة الأولياء الصالحين، الذين كانوا يتوبون إلى الله ﷻ ويستغفرونه من كلّ لحظةٍ لا يذكرون فيها الله ﷻ، بل التوبة في حَدِّ ذاتِها عبادة، وهي من عبادةِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا رسول الله ﷺ وهو المعصوم من الذنوب صغيرِها وكبيرِها ومَن غفرَ اللهُ له ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تأخر إلاَّ أنه يتوب في اليوم مائة مرة، قال رسول الله ﷺ: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» — صحيح مسلم.
واعلموا أنَّ التوبة حتى تكون مقبولةً عند الله ﷻ لا بدّ أن تكون توبةً نصوحاً، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لا يَعُودَ.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ التَّوْبَةِ النصوح فقال: ندم بالقلب، وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ، وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ، وَإِضْمَارٌ أَنْ لا يَعُود.
فلا بدّ للإنسان أن يقلع عن المعصيةِ فوراً، وأن يندمَ على فِعلِها، فيَعزِمَ ألا يعودَ إليها أبداً، وأن يردَّ الحقوق إلى أصحابها.
وهنا نقرأ سويًا: خطبة عن التوبة الصادقة النصوح وفضائلها «مؤثرة — مكتوبة»
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، يقول الله ﷻ:﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾.
اعلموا عباد الله أن التوبة إلى الله ﷻ وكثرة الاستغفار لا يقتصر أثرها على الإنسان وحده فقط، بل إن لها آثاراً يلمسها المسلم في مجتمعه وبين إخوانه، وفي بيئته ونواميس حياته، فالتوبة عن الذنب يعني أن بذرة الخير موجودة في قلب المؤمن وعليه أن ينميها ويسقيها بالأعمال الصالحة، وتعني كذلك أن المؤمن عنده استشعاره لمسؤوليته الأخلاقية تجاه دينه، ووطنه، وأفراد مجتمعه، فيرجع إلى الحق دائماً ولا يصرّ على ذنب أو معصية، بل ولا يعاند في ظلم الناس أو الاعتداء عليهم، ومن باب أولى فهو حريص على أمن بلاده فلا يعتدي على الأموال العامة، ولا يفسد في المجتمع، بل هو دائم السعي في عمارة الأرض لينال رضى الله ﷻ.
وكذلك فإن كثرة الاستغفار والتوبة، سبب في زيارة الرزق، والبركة في المال والعيال، وهي سبيل لاستنزال رحمات الله ﷻ، ونحن الآن في فصل الشتاء، ينبغي علينا أن نجتهد في التوبة والاستغفار لتعمّ علينا رحمات الله ﷻ بالغيث الذي يحيي البلاد، ويسقي العباد، ويطهر القلوب، يقول الله ﷻ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾.
فنسأل الله الغيث وأن لا يجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئا سحاً غدقاً مجلجلاً عاماً نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل اللهم أسقنا غيثاً تحي به البلاد وترحم به العباد.
وهذه أيضًا خطبة عن الرجوع إلى الله ﷻ. نسأله سبحانه عز شأنه، وجل ثنائه، وتقدسّت اسماؤه؛ أن ينفعنا بكل هذه الخطب والدروس والمواعِظ.