خطبة ﴿وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد﴾ مؤثرة

خطبة ﴿وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد﴾ مؤثرة

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي أمرنا بالتوكل عليه. الحمد لله الذي بيده مفاتيح السموات والأرض، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. أشهد أن لا إله إلا الله.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي علمنا كيف نفوض أمورنا إلى الله في السراء والضراء، وكيف نثق برحمة الله وحكمته في كل حال.

الخطبة الأولى

عباد الله: المؤمن الصادق يفوّض أمره كله إلى الله ﷻ في ظاهره وباطنه، في حركاته وسكناته. فمعنى فوضت أمري إلى الله: أي أسلمت أمري إليه ووكلته إلى تدبيره. قَالَ الله ﷻ عَن مُؤمن آل فِرْعَوْن: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ سورة غافر: 44. قال الطبري رحمه الله تعالى في تفسير الآية الكريمة (وافوض أمري الى الله): أي اسلم أمري الى الله وأجعله اليه وأتوكل عليه فإنه الكافي لمن توكل عليه لأن الله تعالى بصير بالعباد. فصاحب التفويض يعلم أن الله بصير به مطلع على ظاهره وباطنه من غير خفاء، فيحقق معنى العبودية لله تعالى التي هي غاية المحبة والتسليم وهي أشرف وصف يتصف به المسلم. وقد وصف الله به نبيه محمد ﷺ في أعظم رحلة وأشرف مكان. يقول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الإسراء: 1]

ومن فوض أمره إلى الله وحده فإنه يرضى بحكم الله ﷻ ويسلم الأمر إليه، لأنه يترك تدبير نفسه لتدبير الله تعالى، ويسلم أمره كله له، فيرضى بقدر الله وتقديره في الوقت الذي يريده الله، مما يجعله يوقن أن الله ﷻ عدلٌ في قضائه وحكمه، فيصبر ويترك الشكوى من ألم البلوى. فإذا وصل العبد إلى هذه الرتبة فقد وُقِيَ، وحصلت السكينة والطمأنينة في قلبه، فلا تخاف نفسه من همّ الدنيا. كما قال الله تعالى في مؤمن آل فرعون: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [غافر: 45]. أي: مَا أرادوا به من الشَّرّ، قال قتادة: “نَجَا مَعَ مُوسَى وَكَانَ قِبْطِيًّا، ونَزَلَ، بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارُ فِي الْآخِرَةِ”.

فالتفويض أعلى مقام من مقامات التوكل. فبداية الأمر توكل وأوسطه تسليم ثم رضا و نهايته تفويض.

فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما فوض أمره الى الله بعد أن رماه قومه في النار بعد أن حطم أصنامهم، فجعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه. يقول الله تعالى: ﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم﴾ [الأنبياء: 68، 69].

وهذا سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لمّا فوض أمره الى الله تعالى في غار ثور أعمى الله تعالى أبصار المشركين عنه وأيده بجنودٍ من عنده. يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 40].

وتفويض الأمر الى الله تعالى لا ينافي العمل والأخذ بالأسباب التي جعل الله تعالى الحياة تقوم عليها، وليس مقصود كذلك أن يترك الأمور سدى. يقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[سورة الأنفال: 60]. وجاء عن النبي ﷺ أنه قال للرجل الذي سأله: أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ ؟ قال له ﷺ: (اعقِلْها وتوكَّلْ) أخرجه ابن حبان. وقال ﷺ: (يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ) أخرجه الترمذي. وعن النبي ﷺ أنَّه كان إذا أخَذ مَضجَعَه قال: (اللَّهمَّ إنِّي أسلَمْتُ نفسي إليك ووجَّهْتُ وجهي إليك وفوَّضْتُ أمري إليك رغبةً ورهبةً إليك لا ملجأَ منك إلَّا إليك) اخرجه ابن حبان.

والحق أن هذا التفويض مطلوب في هذه الأيام من أمة الإسلام التي تواجه هجمات الأعداء التي تنوعت وتعددت، ومنها تشكيك المسلمين بوعد الله ونصره في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ سورة البقرة: 214.

نعم، إنه ﷻ قريب من الذين يفوضون أمورهم إلى الله، ولا يخشون إلا الله العزيز الحكيم، فلا يعرفون القنوط ولا اليأس، وإنما يعيشون في أمل انبلاج فجر النصر القريب إن شاء الله تعالى.

دعَ الْمَقادِيْرَ تَجْرِيْ فِيْ أَعِنَّتِها
وَلا تَبِيْتَنَّ إِلَاّ خالِيَ الْبالِ

مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِباهَتِها
يُغَيِّرُ اللهُ مِنْ حالِ إِلَىْ حالِ

ولا بد أن يكون تفويض الأمور إلى الله متحققاً في القلوب، ظاهراً على الجوارح، فقد دلَ قوله تعالى في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ سورة غافر: 44. على أن الله تعالى عالم بأمور عباده، عالم بالمطيعين والعاصين، يثيب الطائعين، ويعاقب العاصين. وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدر النافذ.

فعلينا أن نطيع الله ﷻ في جميع مناحي حياتنا والابتعاد عن معصيته، وأن نعلم أن الله ﷻ هو الإله الحق المتصرف في ملكوته بما يشاء وكيف يشاء. يقول الله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾[سورة الأنبياء: 23]، فلا يكشف الغمّ والهمّ إلا الله. يقول الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك: 14]. جعلنا الله من عباده المتوكلين عليه وحده لا شريك له، ومن الذين فوضوا أمورهم إلى الله سبحانه.

وهذه ⇐ أروع خطبة عن التوكل على الله ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ مكتوبة

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي إليه تُفوَّض الأمور، وبذكره تطمئن الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله الحليم الغفور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صاحب القلب المطمئن والصدر المشحون باليقين.

أما بعد، عباد الله، فقد قال ربنا الكريم: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، فهنيئًا لمن فوّض أمره، وسلّم حاله، وركن في السراء والضراء إلى الله. ففيه يستكين القلب، وتقر العين، وترتاح الروح، ويزداد اليقين، فالله ﷻ بصيرٌ بعباده، عليمٌ بأحوالهم، رحيمٌ بهم أرحم من الوالدة بولدها.

فاتقوا الله يا عباد الله، وارجعوا إليه في كل حال، واستمدوا من يقينكم بالله الطمأنينة والسكينة، فالتفويض صفة الراضين، وحلية المؤمنين، وسر السعادة الحقيقية لمن أدركه وسعى إليه.

اللهم اجعلنا من الموقنين بحكمتك، والمفوضين لأقدارك، والراكنين إلى رحمتك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

error: