سأل بعض الإخوة عن خطبة عن هموم الدنيا والآخرة؛ وفي ذلك الإطار ولهذا الموضوع نُقدِّم هذه الخطبة، مع ما قدَّمناه من قبل أيضًا في «خطبة عن هم الدنيا.. رسالة يقظة». فالحديث حول هذا الأمر يطول وفي تلك المواضيع تكثر الدروس والعِبر والمواعِظ. وقد أفاض ربنا ﷻ في كتابه الكريم، ونبينا ﷺ في أحاديثه المُشرَّفة عن هذه النِقاط باستفاضة كبيرة.
ولا عجب؛ فالإنسان إمام في هَم الدنيا أو في هَم الآخِرة.
مقدمة الخطبة
يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي وما ثقتي إلا بالله، وما توكلي ولا اعتمادي إلا على الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا، وقائدنا وشفيانا سيدنا محمدا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، خير نبي اجتباه وهدى ورحمة للعالمين أرسله.
ورضي الله ﷻ عن ساداتنا وقاداتنا وهُداتنا إلى الله، سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وعن بقية الآل والصحابة والأهل والأزواج والقرابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة المذنبة بتقوى الله العظيم، وأحثكم نفسه على طاعته، وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، واستفتح بالذي هو خير ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ | وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
هذه هي الدنيا
أما بعد إخوة الإيمان والعقيدة، يقول الله ﷻ في الحديث القدسي «يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب، فإن رضيت بما قسمته لك، أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محمودا، وإن لم ترضى بما قسمته لك فوعزتي لأُسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في البرية ثم لا يكون لك فيها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذموما».
إخوة الإيمان والعقيدة هذه هي الدنيا، أمامك طريقان إما أن تسير على مراد الله أو تسير على مرادك أنت، فهل ترى أي مراد سيكون في الوجود؟
يقول الله ﷻ لسيدنا داود في الحديث القدسي «يا داوود إنك تريد وإنني أريد، وإنه لن يكون إلا ما أريد، فإن اشتغلت بما أريد كفيتك ما تريد، وإن اشتغلت بما تريد أتعبتك بما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد».
هموم الدنيا
لا يظهر في ساحة الوجود إلا ما أراده الله. أحبتي لكل إنسان في الوجود هموم، وهذا لا يخلو في حال الدنيا لأنها كما قال الشاعر:
طُبِعَـتْ علـى كَــدَرٍ وأنــت تريـدهـا
صـفــواً مـــن الأقـــذاءِ والأكـــدارِ
لكن الهموم نوعان: إما هموم دنيوية وأما أخروية، فإذا ما أردت أن تقول: ما هي الأمور الدنيوية؟
بحثت بين الناس فرأيت بعضهم يهتم للأولاد، والبعض همه هم العيش، همه أجار البيت، المال، المتاع، الوظيفة، حاجات الأسرة.
الشباب همهم الزواج، البنات، بل وبعضهم همهم اللعب، ووسائل التواصل الاجتماعي، وغير ذلك وغير ذلك مما هو لا قيمة له أمام مراد الله.
الهموم الأخروية
وأما الهموم الأخروية، فشتان شتان، وهيهات هيهات، وكم هنالك فرق بين هذا وذاك.
الهموم الأخروية قد يكون أولها وأهمها حسن الخاتمة، أن يختم لنا على خير، أن يختم لنا على إيمان.
من الهموم الأخروية أن نموت والله ﷻ عنا راضٍ، من الهموم الأخروية أن ننجو يوم القيامة من الحساب، من الهموم الأخروية أن نلتقي بالحبيب ﷺ.
انظر بين هذا وهذا، وهيهات هيهات أن يجتمع هذا وهذا.
لا تجعل الدنيا أكبر همك
يقول الحبيب ﷺ «من جعل الهموم هما واحدا، هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أي أوديته وقع أو هلك».
نعم هنالك هموم دنيوية لم ينفها الحبيب ﷺ عنك، ولكن احذر أن تجعلها في قلبك، وكِلها إلى الله، أرني اليقين والتوكل، اجعل همك الآخرة، وانظر كيف سيُفرج الله همك، وهمومك كلها في الدنيا.
في رواية أخرى، قال الحبيب ﷺ «من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، مهما حدثت معه أمور يرى أنه في خير».
«من جعل همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه واتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه ضيعته»
عاش في تشتت، في ضياع، كل يوم عنده مشاكل، مغتم لهذه المشاكل.
قال « ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه» ولو كان أغنى الأغنياء سيجد نفسه فقيرا «ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له».
اجعل همك الآخرة يُفرج الله عليك هم الدنيا
لذلك نفهم حديث النبي ﷺ ودعائه الذي كان يدعو فيه ويقول «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا».
بهذا نفهم الدعاء «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا» نعم سيكون فينا هموم، ولكن لا تكن هي أكبر الهموم، بل أكبر هم عندك الآخرة حتى يفرج الله هموم الدنيا.
ومن هنا خلاصة القول، كيف انتقل من هذا الحال إلى حال ارتقى به إلى الآخرة؟ أريد أن ارفع همتي من هموم الدنيا إلى هموم الآخرة، أقول لك وصيتين اختم بهما هما للحبيب ﷺ، أعرني سمعك لسماعهما.
دعاء تفريج الهم
أما الأولى فقد دخل الحبيب ﷺ ذات يوم المسجد فوجد فيه واحدا من الصحابة -رضي الله عنه- يقال له أبو أمامة لكنه وجده في غير وقت الصلاة، فسأله الحبيب -عليه الصلاة والسلام- قال «يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة» وأبو أمامة -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله هموم لزمتني وديون.
يا رسول الله هموم لزمتني وديون أثقلت همي جئت أفرج همي في بيت الله، فإذا بالحبيب -عليه الصلاة والسلام- يقول له «أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله ﷻ همك وقضى عنك دينك؟».
قلت: بلى يا رسول الله، فقال -عليه الصلاة والسلام- «إذا أصبحت وإذا أمسيت قل اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
هذا دعاء الحبيب ﷺ صباحا ومساء، يا من تريد تفريج الهموم، يا من تكاثرت عليه الديون، يا من كانت الدنيا همه ألزم هذا الدعاء صباحا ومساء.
علاج الهم والحزن
هذه الوصية الأولى وأما الثانية فهي أيضا من الحبيب ﷺ قال بأبي هو وأمي «من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب».
الدعاء والاستغفار، هما وصيتا الحبيب ﷺ حتى تزيل همومك وكروبك مهما كانت فإنها في النهاية بيد من؟ بيد الله ﷻ.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يا فوز المستغفرين.
وهنا تجدون: خطبة عن هجرة القلوب إلى الله
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا، وقائدنا وشفيعنا سيدنا محمدا ﷺ، خير الخلائق والبشر، ما اتصلت عين بنظر ووعت أذن بخبر.
عباد الله اتقوا الله فيما أمر، واخرجوا حب الدنيا من صدوركم فإنه إذا استولى أسر، واعلموا أنه لا يضر ولا ينفع، ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع إلا الله، واعلموا أن الله ﷻ أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه، وثنى بملائكة قدسه وعرشه فقال عز من قائل ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين أنك حميد مجيد.
الدعاء
- اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعلى يا مولانا راية الحق والدين.
- اللهم انصر من نصر المسلمين، وأخذل يا إلهنا الكفرة والمشركين، والملحدين أعداءك أعداء الدين.
- اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه إلى كل خير، ومن أراد بهم سوءا أو شرا فخذه أخذ عزيز مقتدر.
- اللهم اهد شباب المسلمين يا رب العالمين، اللهم اهد بنات المسلمين يا رب العالمين، اللهم اهد شبابنا وبناتنا إلى ما تحب وترضى، اللهم ارزقهم العفة والحياء، واجعل هدايتهم يا ربنا على الوجه الذي يرضيك، يا أرحم الراحمين.
- اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
- اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
- اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصل عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين.
- اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا، وإلى غير بابك الكريم لا تكلنا، لا تجعلنا إلا على الوجه الذي يرضيك.
- اللهم لا توجه قلوبنا إلا إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلا عليك برحمة منك يا أرحم الراحمين.
- اللهم اجعل هذا البلد آمنة مطمئنة، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، ووفق فيها ولاة أمورها ليقيموا شرعك ودينك، وهدي حبيبك ﷺ.
- اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا، وإلى غير بابك الكريم لا تكلنا.
- اغفر اللهم للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعوات.
والحمد لله رب العالمين، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
قال ﷻ ﴿وَالْعَصْرِ | إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ | إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
اللهم اجعلنا منهم.
والآن يا إخوة؛ فقد انتهينا من تقديم خطبة عن هموم الدنيا والآخرة؛ وهي تِلك التي ألقاها فضيلة الشَّيخ علاء زيات -جزاه الله خيرا-. ويُمكنني الآن أن أترككم لتطَّلعوا -أيضًا- على خطبة عن هادم اللذات.. فهي موعظة مؤثرة؛ نسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم بكل الخطب والدروس والمحاضرات؛ اللهم آميـن.