مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم المنان، هدانا لدين يحثنا على الرقي بالمجتمع وعمارة الأوطان، أحمده سبحانه بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأومن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فطر الإنسان على حب الوطن، وأمره بشكر ما وهبه فيه من النعم.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ﷺ وعلى آله وصحبه، وعلى كل من سار على نهجه إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فـ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، واعلموا -رحمكم الله- أن حب الوطن ليس مجرد مشاعر تعتلج في النفوس، وتخالط القلوب، بل هو خالص الانتماء، وصادق الوفاء، يتجسد في واقع يعايشه المؤمن، ويترجم في عطاء لا أنانية فيه ولا منة، فما يبذله المسلم من أجل نهضة مجتمعه ورقي وطنه، ما هو إلا رد للجميل واعتراف بالفضل، ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.
إن هذا الوطن المعطاء، إنما قامت نهضته على سواعد مخلصة، وأيد أمينة، واشتد عوده بسهر من أعين تكن له كل الوفاء، وقلوب له فيها عظيم الانتماء، حتى أصبح كما ترون، وبتقدمه تشهدون وتذكرون، فهلا أدركنا هذه النعمة، ووعينا مكانتها وقيمتها، ثم رفعنا إلى الله أكف الضراعة والدعاء أن يديمها ويبارك فيها، وربنا ذو كرم وعطاء، ينعم ويزيد، ويعطي فوق ما نريد، بيد أنه سبحانه جعل لكل شيء أسبابه، ورهن بقاء النعم بالاعتراف بها، وزيادتها بحسن شكرها.
ولقد قرأتم قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، فهلا شكرا يتعدى القول باللسان، إلى العمل الجاد بالجوارح والأركان، بتعاون كل الجهود المخلصة، واجتماع أيدي أبناء الوطن الفتية، بدءا من معرفة كل موقعه ومكانه، وإدراك الواجبات والاختصاصات، حتى يبذل كل جهده، ويستفرغ وسعه في تقديم ما لديه من إمكانات، وإبراز ما وهبه الله من مواهب وقدرات، بكل إخلاص وشفافية، فالهدف واحد، والوطن شاهد، ولن يضيع الله عمل عامل جعل همه رفعة وطنه وراحة من حوله، فـ «خير الناس أنفعهم للناس».
أيها المؤمنون: إن ما نعايشه بحمد الله على تراب هذا الوطن من نعمة الأمن، وما يجده المواطن والمقيم من سلم وطمأنينة بال، لهو نعمة جليلة، وهبة طيبة، ألا ترون كيف امتن الله بها على أهل مكة فقال: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾.
وتأملوا -رحمكم الله- دعاء سيدنا إبراهيم -عليه السلام-: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾، وقوله: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾، تجدوه -عليه السلام- مدركا لقيمة الأمن في البلد، سائلا ربه أن يمد أهله بأسباب الاستقرار، فجدير بنا أن ندرك قيمة هذه النعمة التي ربما يفتقر إليها الكثيرون في أرجاء المعمورة، وحري بنا أن نحافظ على هذا الأمن المستتب، وأن نقف في وجه كل ما من شأنه أن يزعزع هذا الاستقرار، كتلفيق الأخبار ونقل الشائعات، فقد ربى الإسلام أتباعه على حسن التثبت من الأخبار، وبين أن في ذلك من الأثر ما يوقع الضرر، ويورث الحسرة والندم، يقول الحق ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
وإذا كان هذا الأمر منهيا عنه فيما يتناقل عن الأشخاص، ويؤثر في الأفراد؛ فكيف بما يمتد أثره إلى المجتمع بأسره، أو ينعكس سلبا على أمن الوطن واستقراره؟ إن من أخلاق دينكم أن ينأى المسلم بنفسه عن القيل والقال، كما ورد عن المصطفى ﷺ أنه «نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وما ذاك إلا لأن الإنسان إذا حدث بكل ما سمع كثرت عثراته، وخلط الصواب بالخطأ، ونقل ما وافق الحق وما جانبه، فوقع في الكذب -والعياذ بالله- وقد قال: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»، فطوبى لمجتمع وعى أبناؤه أمانة الكلمة، وكانوا على قدر المسؤولية، وهنيئا لكم حرصكم على أمن مجتمعكم، ونأيكم عن سبيل المرجفين.
فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن لكم من تقواكم دافع للإسهام في خدمة مجتمعكم، وبناء وطنكم، والارتقاء بأنفسكم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهذه أيضًا ⇐ خطبة (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أمر بالإصلاح ونهى عن الإفساد، وحث على رعاية مصالح العباد، ورغب في عمارة البلاد، أحمده سبحانه فهو للحمد أهل، وأشكره على واسع المنة والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أمر بشكر المحسنين، والتعاون على ما فيه خير الناس أجمعين، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: حين يقوى البنيان ويرتفع، تأتي مهمة الحفاظ عليه وتوثيقه، والالتفات إلى ما فيه صلاحه وحسنه، ولا يتأنى ذلك إلا بتحقيق المعروف والأهداف الحسنة، والسعي في رضا الله تعالى، فإن زيادة بركة أعمال البر، وقوة عطائها، واستنزال رحماتها، تكون بالاشتراك بين المؤمنين في أدائها، وأخذ كل منهم بنصيب وطرف، ألا ترون كيف جعل الله الصلاة في جماعة أكثر أجرا؟ وجعل الصيام أمرا عاما بين المؤمنين؟ واستحنهم على أداء الحج مجتمعين؟ وهكذا شأن الدول
والحضارات أيضا، فخيرها ما كان عاما دائما، سهلا جزلا، خالصا صفوا، وزيادة قوة الدول والحضارات ونفعها حين يكون أفرادها على قلب واحد في المصالح العامة والأهداف العليا.
ومن أهم مقومات نهضة الوطن انتظام الحياة على سيرة العدل ومنظومة الأخلاق؛ فبذلك يثقل ميزان الأمم، ويضاعف بها حال الفضل، يقول الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾، فالميزان هو العدل، وانظروا أهميته في تأكيد ذكر الميزان في هذه الآيات وتكراره ثلاث مرات وأما الأخلاق ففي إقامة القسط وعدم بخس الحقوق، وهكذا تستقر حياة الإنسان كما تستقر كفتا الميزان.
فاتقوا الله – أيها المسلمون، واعملوا على بناء وطنكم ورفعته، واشكروا نعمة الله عليكم في الأمن والأمان، والسعادة والاستقرار.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.