مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم الوهاب، أجرى السحاب، وأنزل الغيث وأحيا الأرض اليباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أحسن العابدين، وأفضل المتدبرين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-؛ فإنها الجامعة لخير الدنيا والآخرة ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: إنكم تعيشون في هذه الأيام المباركة وأنتم تشاهدون آثار رحمة الله في نزول الغيث وتوالي النعم، ولا ريب أن المؤمن يفرح بكرم الله وعطائه؛ فربنا جلت قدرته يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فكونوا -عباد الله- لربكم من الشاكرين، ولنعمائه من الذاكرين، فقد تفضل عليكم بما علمتم.
وإن الماء أصل في دوام الحياة واستمرارها، يقول رب العزة والجلال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾، وحاشاكم أن تكونوا ممن كفر نعمة الله أو جحد عطاءه وقد ذكركم بفضله وإنعامه ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾.
أيها المسلمون: من كرم الله ﷻ على عباده أنه يكرمهم بنزول الغيث بعد انقطاع أملهم بشارة بالخير ورحمة، ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، لكنكم تدركون أيها العارفون بنبيكم ﷺ أنه كان يعيش -معلما لأصحابه- في لحظات تلبد السماء بالغيوم وهبوب الرياح بين الخوف والرجاء، خوف يحمله ومن اقتدى به إلى دوام الاعتراف بالحاجة إلى الله افتقارا وخضوعا، ورجاء مغلف بشكره ﷻ أملا بنزول رحمته، ودوام عافيته.
تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله ﷺ إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته ﷺ، فقال : «إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي». ويقول إذا رأى المطر: «رحمة».
عباد الله: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ﴾، ولا يخفى عليكم يا ذوي الألباب أن الماء النازل إلى الأرض قد جعله الله إنعاشا لقفرها وتبديلا لقحطها فتهتز به الأرض ثم تربو نضارة وتتوشح بخيرات ربها، ثم يصير هشيما بعد نضارته فيذهب جمال خضرته أدراج الرياح، يقول ربنا ﷻ : ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا﴾.
وهكذا هي الدنيا؛ تصفو أحوالها زمنا للعباد فتزدان، غير أنها دار اختبار وامتحان، وقد تأذن ربنا ﷻ باختبار عباده فيها ليبين صدق إيمانهم، ويظهر جوهر معدنهم، يقول ربنا سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
ولا عجب – عباد الله – أنه مع نزول الغيث وتعاقب آثاره من الأودية ونحوها فإن المسؤولية في حماية الأرواح والممتلكات تشمل الجميع بلا استثناء، فيوضع في الحسبان التخطيط السليم، والمساهمة المجتمعية الفاعلة، وحسن الإدارة، وتجنب المخاطر، وحماية الأرواح والممتلكات، ومع ذلك فإنه قد يقع ما يحذر منه المرء، وقد يفقد البعض مالا أو روحا أو نعمة خول إياها، لكنه لا بد أن يعلم أنه لا يليق بالمؤمن الصادق مع مثل هذا إلا أن يكون صابرا محتسبا مسترجعا.
وقد وعد الله الصابرين خيرا فقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، وربوا أنفسكم على الصبر تنالوا الفلاح ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي المكارم والنهى.
أما بعد، فيا عباد الله: اعلموا وفقكم الله لطاعته، أنه يشرع للمسلم إذا نزل المطر أن يلهج لسانه بما أثر عن النبي ﷺ «اللهم صيبا نافعا»، إذ أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان إذا رأى المطر، قال: «اللهم صيبا نافعا»، كما يحسن بالمرء أن يدعو الله ﷻ أن يعم خير المطر البلاد والعباد، وأن يسأله سبحانه أن يصرف خطره عنهم اقتداء بالنبي الكريم فإنه يقول عند اشتداد المطر: «اللهم حوالينا، ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والآجام والظراب، والأودية ومنابت الشجر».
ولا يغفل العاقل عن شكر الله الواهب المتفضل إيمانا به واعترافا بفضله؛ فيقول كما قال نبيه المصطفى ﷺ: «مطرنا بفضل الله ورحمته»، ولا تأخذه ملذات الحياة عن الاتعاظ عند اشتداد الريح وتكون السحاب.
فقد روت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال النبي ﷺ في مثل هذا، تقول: ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيما، أو ريحا، عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله، أرى الناس، إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال: «يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾».
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا الله واشكروه، ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.