عناصر الخطبة
- رسول الله ﷺ سيد ولد آدم ولا فخر وتعظيمه وتوقيره واجب شرعي.
- مولد النبي نعمة سائغه لذا وجب تكريم يوم مولده والاحتفال به.
- مولد النبي محمد ﷺ هو نعمة سابغة من نعم الله ﷻ التي أنعم بها على الأمة خاصة والبشرية عامة.
- تعظيم النبي ﷺ وآله الأطهار وأصحابه أجمعين فرض علينا لأننا حسنة من حسناتهم.
- من إحياء سنته ﷺ أن نستسقي الماء من رب الأرض والسماء ونفعل كما فعل ﷺ.
الخطبة الأولى
يستقبل المسلمون في شهر ربيع الأول من كل عام ذكرى مولد النور والهُدى، الرحمة المهداة، والنعمة المُسداة، صاحب الكرم والوجود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، سيدنا محمد ﷺ، الذي كان مولده، مولد سعادة للبشرية جمعاء، بل كانت ولادة نبينا محمد ﷺ قمة التكريم الرباني للإنسان، فقال ﷻ: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ الإسراء: 70.
ذلك أن البشرية قبل مولده ﷺ كانت تموج بألوان الجهالات والضلالات، بالإضافة إلى الانحدار الحضاري والانحلال الأخلاقي، والتفكك الاجتماعي، وتحريف الأديان التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام حيث أصبحت الديانات فريسة العابثين والمغرضين، ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها التي جاء بها الأنبياء السابقون، فانتشر الظلام في أرجاء الدنيا وعمّ، وفاض الجهل في الناس وطمّ، حينها أذن الله ﷻ للهادي البشير أن يُشعَّ نوراً يضيء هذه الظلمات، ويبدد تلك الضلالات، قال ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ الأحزاب: 45–46، فجاءت ولادته ﷺ في يوم الإثنين من ربيع الأول على قول أكثر المحققين وأصحاب السير، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سئل عن صيام يوم الإثنين؟ فقال: «ذاك يوم وُلدتُ فيه ويوم بُعثتُ فيه..» صحيح مسلم.
وقد قال الله ﷻ في وصف سيدنا محمد ﷺ ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ الزخرف 52–53.
وفي هذه المناسبة العظيمة، والحدث الذي أضاءت له الدنيا، وأشرقت له القلوب، يتحرك وجدان المؤمنين فرحاً، وتهيج أشواقهم بمحبة نبيهم، وتتحرك ألسنتهم بذكره، وتصدح حناجرهم بمدحه، وما ذاك إلا شوقاً لصاحب الذكرى العطرة وتسلية للنفس بذكر الحبيب ﷺ إلى حين لقائه على الحوض المورود، فاحتفال المؤمنين بمولده ﷺ هو أسلوب حضاري للتعبير عن محبته والاعتزاز بقيادته والالتزام بشريعته، وإظهار التعظيم والتوقير، وتجديد عهد وميثاق الحب والاتباع، لمن جعله الله ﷻ قدوة للناس كافة يهديهم به سُبُل السلام ودروب النجاة.
كيف لا، وهو مَنْ زكّى الله ﷻ خُلَقه، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4 وزكى فؤاده، فقال: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ النجم:11، وزكى معلمه، فقال: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ النجم:5، وشرح صدره، فقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ الإنشراح:1، ورفع ذكره، فقال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ الإنشراح:4، وزكى لسانه، فقال ﷻ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ النجم:3، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال ﷻ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ الفتح:1–2.
وهو مع ذلك رسولٌ من البشر، قال الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ الكهف: 110، ولكونه بشر يمكن للبشر الاقتداء به واتباعه، فالناس يتأسون ويقتدون بمن يماثلهم، وبهذا يكون التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، قال الله ﷻ:﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ الأنعام:8–9.
عباد الله: لقد كانت ولادته ﷺ في عام الفيل، وذلك العام الذي أذلّ الله ﷻ فيه أبرهة وجنده، وأعز وحفظ وشرّف بيته الحرام، فكان ذلك العام بداية الانتصارات والفتوحات من ربّ العالمين، فكانت نصراً حسيّا لحماية الكعبة من الهدم المادي، ومعنوياً بحماية الإنسان من الهدم المعنوي، ليعود التوحيد خالصاً لله ﷻ، فتمت بذلك صيانة المكان، وبناء الإنسان، فنهضت الأمة وشعّت نوراً على العالم أجمع، فمولده ﷺ لم يكن حدثاً عابراً في التاريخ بلك كان سعادة وأماناً للناس كافة، كيف لا وهو الذي أرسله الله ﷻ رحمةً للعالمين، فقال ﷻ: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ الأنبياء: 107.
تجلى مولد الهادي وعمت
بشائره البوادي والقصابا
وأسدت للبرية بنت وهب
يدا بيضاء طوقت الرقابا
لقد وضعته وهاجا منيرا
كما تلد السماوات الشهابا
فقام على سماء البيت نورا
يضيء جبال مكة والنقابا
فكانت ولادة النبي ﷺ إيذاناً ببدء حضارة جديدة تعيد للإنسان كرامته وتحقق له الأمن والعدالة، ليتحرر من براثن الجهل والظلم والوحشية، إلى برّ العلم والرحمة والعدالة والرفق.
ولم تقتصر رحمته ﷺ على المؤمنين به، بل جاوزتها إلى من حاربه وآذاه، وصدّ الناس عن دعوته ودينه، فكان ﷺ رحمة وأماناً للناس كافة، وحرزاً لهم من العذاب، فقال الله ﷻ: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُم وَهُم يستغفرون﴾ الأنفال: 33.
وقد سطّرت مواقفه ﷺ أعظم وأروع الأمثلة في الرفق بالمخالفين له في الدين والعقيدة، فحين أتاه ملك الجبال يستأذنه بالانتقام ممن آذوه وأدموا قدميه الشريفتين، قال له: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» متفق عليه.
وما ذاك إلا لأنه ﷺ قد جاء لبناء الحضارة لا لهدمها، جاء بخلاص الناس من النار لا لهلاكهم، أو الانتقام لنفسه، وهي لا شك دعوة لإنسان هذا العصر بأن يتجاوز الكثير من الأمور تجنباً للدمار والهدم الذي نراه في مجتمعات الإنسانية اليوم مما لا يقره دين ولا عقل.
ومن هنا فقد بدأ النبي ﷺ ببناء الإنسان الذي هو أساس الحضارة، لتتجلى فيه الإنسانية بأبها صورها، من خلال إيقاظ الروح وربطها بالعقل وتحفيز هذا العقل للتفكير والتدبر لإيجاد التناسب بين واقع الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، لصناعة الإنسان المتكامل، المتسلح بالقيم، القادر على قيادة الحضارة الإنسانية جمعاء، وبذلك تتحقق دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام حين قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة:129.
وتتجلى بُشرى عيسى عليه السلام في أبهى صورها في قول الله ﷻ ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ الصف:6، في شخص النبي وخُلقه، فيقول ﷺ فيقول ﷺ:«أنا دَعْوَةِ إبراهيم وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» رواه الإمام أحمد.
قال ابن رجب: “وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وزال به ظلمة الشرك منه كما قال ﷻ: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتابٌ مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾ المائدة:15.
عباد الله: إن الاحتفال بذكرى مولد الهادي محمد ﷺ هو من باب التذكير بأيام الله ﷻ وفضله على الناس جميعاً خاصة وقد أمر الله ﷻ أنبيائه بأن يذكروا أقوامهم بفضل الله ﷻ عليهم قال ﷻ مخاطباً نبيه موسى عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ إبراهيم:5؛ وولادة النبي محمد ﷺ من أعظم النعم التي أنعم الله ﷻ بها على البشرية جمعاء، ومولده من أيام الله التي يجب علينا جميعاً أن نتذكرها بل ونفرح بها ونظهر ذلك للعالم أجمع قال الله ﷻ ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هو خير مما يجمعون﴾ يونس:58.
وبمولده ﷺ اختُتمت سلسلة الأنبياء واكتمل البناء الإلهي لبيت النبوة وبه، ووضع اللبنة الأخيرة في مكانها ليكتمل الجمال، وتبعث خير الأمم على يد خير الأنبياء، قال ﷺ: «إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ من قبلي، كمَثَلِ رجلٍ بنى بيتًا، فأحسَنه وأجمَله إلَّا موضِعَ لبِنةٍ من زاويةٍ، فجعَل النَّاسُ يطوفونَ به، ويعجَبونَ له ويقولون: هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ؟ قال: فأنا اللَّبِنةُ، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ» صحيح البخاري.
⇐ وهنا أيضًا خطبة: السلام عليك أيها النبي.. بمناسبة ذكرى مولد رسول الله ﷺ
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
عباد الله: حرىٌّ بنا في هذه الأيام أن نكثر من الاستغفار وطلب السقيا من الله ﷻ.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة، من بابٍ كان نحو دارِ القضاء، ورسول الله ﷺ قائمٌ يخطبُ. فاستقبل رسول الله ﷺ قائماً، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعُ الله يُغيثنا. قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا».
قال أنسٌ: فلا والله، ما نرى في السماء من سحب ولا قَزَعَةٍ، وما بيننا وبين سَلعٍ من بيتٍ ولا دارٍ. قال: فطلعت مِن ورائه سحابةٌ مِثلُ التُّرسِ، فلمَّا توسَّطَتِ السماءَ انتشرت، ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. قال: ثم دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعةِ المقبلةِ ورسول الله ﷺ قائمٌ يخطب فاستقبله قائماً، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السُّبُلُ، فادع الله لنا يُمسِكها عنَّا. قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه، ثم قال: «اللهم حَولنا ولا علينا، اللهم على الآكامِ والظِّرَابِ وبطونِ الاوديةِ، ومنابت الشجرِ» قال: فانقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
عباد الله: أكثروا من الدعاء في هذه الساعات واجعلوا الاستغفار ورداً لكم. ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾.
والحمد لله ربّ العالمين.
⇐ المزيد من الخطب عن المولد النبوي
- ↵ خطبة: المولد النبوي الشريف، استنهاض لعزيمة الأمة
- ↵ خطبة: وجوب الأدب مع سيدنا رسول الله ﷺ – مناسبة لذكرى المولد النبوي الشريف
- ↵ خطب عن المولد النبوي — 5 روائِع مكتوبة لتختار من بينها
- ↵ بعنوان «عزيز عليه ما عنتم».. خطبة قصيرة مكتوبة بمناسبة مولد النبي محمد ﷺ
وفقنا الله ﷻ وإياكُم لكل خير.