حدَّدت وزارة الأوقاف المصرية موضوع خطبة الجمعة القادمة، السادس من نوفمبر من عام ألفين وعشرين، من مواقف الشرف والنبل في السيرة النبوية المشرفة، وهي هنا لكم “غير الرسمية” مكتوبة.
الحمد لله الخالق العلي الأكرم، الذي علم الإنسان ما لم يكن يعلم، وأعطاه فكان كريم العطاء، إذا اهتدى به هداه، وإذا استعان به أعانه وقربه واجتباه، وإذا مسه الضر فوقف ببابه مناجيا كفاه الضر وعفاه وتولاه، فالحمد لله عدد ما خلق الله من صور الحياة، والحمد لله بعدد من أطاعه أو عصاه، والحمد لله على أعظم نعمه وأجل فضائله في علاه، أن ربنا هو الله، وأن لا معبود لنا ولا إله لنا سواه.
والصلاة والسلام على حبيبه خير الأنام والأحق بالإجلال والإكرام، سيد الخلق وحامل راية الحق، البشير النذير، وعلى أزواجه وآل بيته ورفاقه وصحبه، وأتباعه وأتباع سنته وحاملي لواء دعوته إلى يوم الدين ثم أما بعد ..
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإن تقديس نبينا “ﷺ” والذب عنه والدفاع عن سيرته العطرة واجب علينا ومسؤولية في أعناقنا، والاحتفاء به عليه الصلاة والسلام” شرف لنا وبرهان على حبنا لشخصه الكريم ونهجه المستقيم، شريطة أن يأتي الاحتفال بنهجه موافق لنهجه، غير منطو على بدعة أو ضلال، وهنا ونحن في معرض الحديث عنه والكلام في سيرته العطرة والاحتفال بمولده الشريف الذي عطر الدنيا وملأها بركة وسلاماً، سنجعل من تدارس سيرته واقتفاء أثره، ومطالعة مواقفه التي تمتلئ بالعبرة والموعظة الحسنة وتنطو على أرقى السجايا وأنقى الطباع، خير وسيلة للاحتفاء والاحتفال والتذكرة بكنوز سيرته الكريمة، وليكن عنوان حديثنا ومحور كلامنا (من مواقف الشرف والنبل في السيرة النبوية المشرفة) ولا شك أن مواقف النبي “ﷺ” التي تنطق بالشرف والنبل وكرم الخلق وعظمة المروءة لا تحصى ولا تعد، ولا يحيط بها مقال ولا يحدها حد، ولكنه غيض من فيض وقليل من كثير، عسى أن ينفعنا الله بفضله ويعلمنا منه ما ينجينا في الدنيا والآخرة.
والله لو أردنا أن نقتفي أثر الحبيب المصطفى ومواقفه الشريفة الراقية، لوجدنا أن كل كلمة قالها، وكل كلمة سكت عنها، وكل فعل قام به وكل فعل امتنع عنه هو موقف يستحق الدراسة والتأمل واستخراج كنوز الحكمة منه، ولكن سنحاول ذكر أبرز المواقف لتعم الفائدة وتصل التذكرة، لكل محبي الرسول “ﷺ”.
موقف النبي “ﷺ” من أهل الطائف
أبلى النبي “ﷺ البلاء الحسن في دعوة أهل مكة إلى الإسلام، وفي حضهم على اتباعه والفرار من براثن الجهل وظلمات الكفر، فدعاهم سرا وعلانية، بالترغيب مرة والترهيب مرة، غير أنه لم ير من ساداتها أشرافها إلا القسوة والرفض والعنف والأذى، فقرر أن يخرج بدعوته إلى الطائف آملا أن يجد من ساداتها وأشرافها الدعم والسند والعون الذي فقده بين أهله، عرض عليهم أمره وبين لهم سنته وفسر لهم جوهر دعوته، وأهميتها لتطهير الطائف ومكة بل العالم بأسره من أرجاس الكفر والضلال الذي بات مسيطرا على الجزيرة العربية كلها.
كانت استجابة أهل الطائف لدعوة النبي “ﷺ” مخالفة لظنونه وتوقعاته، وحملت له من القسوة والخذلان ما يفوق طاقة البشر، فبدلاً من أن يصدقوه ويؤمنوا به ويناصروه، كذبوه وطرده وأغرو ا صبيانهم بتعذيبه، حتى أنهم ظلوا يلاحقونه بالحجارة والأذى حتى أهم أصابوا قدميه الشريفتين بالجرح والأذى، فسالت الدماء منها، وتملك النبي “ﷺ” الشعور بالخذلان والحزن في أقسى صورهما.
لجأ النبي “ﷺ” بعد هذه الرحلة الشاقة نفسياً وبدنياً إلى بستان لرجلين يقال لهما عتبة وشيبة بن الربيعة، فاستظل بظل شجرة وجلس تحتها مناجيا ربه، شاكيا إليه بثه وحزنه وضعفه، طالبا منه المدد والعون على كل ما أدركه من العسر والعنت والمشقة فقال فيما روي عنه في كتب السيرة النبوية المشرفة: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملّكته أمري إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك الحمد حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلى بك).
بعد قليل من تلك المناجاة جاء إلى النبي رجل يقال له عداس وهو نصراني، وقدم له شيئا من الطعام وجرى بينهما حديث انتهى بإسلام عداس واتباعه لدعوة النبي “ﷺ”، ثم بدأ لنبي “ﷺ” يهيئ نفسه للعودة إلى مكة وهو يحمل بين جنباته قلبا كسيرا حزينا، وشعورا بالهزيمة والخذلان، وبينمها هو في هذه الحال يعالج آلام الحزن، إذ بعث الله إليه ملكان وهما أمن الوحي جبريل “عليه السلام” والملك الموكل بالجبال، ليواسي النبي “ﷺ” ويرض عليه الانتقام والثأر ممن آذوه ومن أهل الطائف، وهذا ما يرويه بالتفصيل حديث عروة عن عائشة رضي الله عنه” أنها قالت للنبي “عليه السلام” : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال ” ﷺ ” : ” لقيت من قومي ما لقيت، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني (يقصد دعاهم إلى الإسلام في الطائف) فانطلقت (سرت) وأنا مهموم ، فرفعت رأسي ، فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد ذلك فما شئت ، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين ( أي لفعلت) فقال ” ﷺ ” : ” بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا ” .
فهذا الموقف لعمري يعكس كل معاني النبل والمروءة والشرف، حيث أن النبي لم يتبع هواه ولم يرغب في الانتقام منهم، والموقف لم يمض عليه إلا القليل، والألم في أشده والشعور بالظلم بلغ قمته، ومع كل ذلك خالف النبي بشرته وآثر نصر الدعوة وسلامة الأمة من الاستمرار في أغلال الكفر والجهل على الثأر لنفسه والانتصار لكرامته، فما أنبله من موقف وما أصعبه من قرار.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، رمز الكمال وكمال الوجود، وخير الخلق والمرسلين وإمام المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد ..
فما زلنا نجمع من اللآلئ والكنوز مما تحمله لنا السيرة النبوية المشرفة، والرحلة الدعوية المطهرة، لذا لا يمكننا الحديث عن (مواقف الشرف والنبل في السيرة النبوية المشرفة) دون أن نذكر موقف النبي “ﷺ” من أهل مكة حين دخلها فاتحاً ومنتصراً ومؤزرا، وهو الذي طرد منه ضعيفاً مضطهدا وقد نال منه أذى أهلها وظلمهم وجحودهم ومن أصابه الكثير والكثير، جاءهم منتصرا ليلقنهم درساً في معنى العفو عند المقدرة، وكيف يتعامل أهل الشرف والمروءة إذا قدروا.
بقي النبي “ﷺ” ثلاثة عشر عاما وهو يدعو أهل مكة للإسلام، وتتوالى عليه الصفعات وتتوالى عليه صنوف الأذى والاضطهاد، حتى أذن الله له ولأصحابه بالفرار إلى المدينة المنورة، حيث كانت بيئة طيبة وخصبة لنمو الدعوة الإسلامية وبزوغ فجرها، الذي أشرق بنوره على الدنيا بأسرها، لم تتوقف المعارك بين قريش وبين النبي أبداً بل كانت مستمرة وعنيفة وقاسية، حتى كان صلح الحديبة والذي اشتمل عدة بنود واتفاقيات منها إعطاء الحرية للقبائل في الانتساب لمن يردون سواء لقريش أو للنبي “ﷺ” ودعوته، وكالعادة نقضت قريش العهد وأخلت بشروط واتفاقيات الصلح، حتى كان يوم العاشر من شهر رمضان، حين دخل النبي فاتحا مكة في جيش قوامه أكثر من عشرة آلاف مقاتل، وهو الذي طرد منها وليس معه عشرة رجال!
جاء النبي مكة فاتحاً ومنتصراً وقد مكنه الله من أعداء دعوته، وأحكم قبضته عليهم ولو أراد أن يبطش بهم وينتقم لنفسه وأصحابه ممن عذبوا وأوذوا وطردوا، لما منعه أحد ولما لامه لائم، فهو صاحب حق وصاحب ثأر ولكنه يعود فيتصرف كالنبلاء والشرفاء والمترفعين عن النزعات الانتقامية والرغبات الانسانية، ليسجل التاريخ مشهدا آخر من مشاهد النبل والشرف قلما يجود به الزمان، حيث وقف النبي بين أهله وأبناء عشيرته (الذين آذوه وضيقوا الخناق عليه واضطهدوه) مناديا: ( ما ترون أني فاعل بكم ؟، قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (يوسف:92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .
هذا ومن المواقف التي أبرزت نبل النبي “ﷺ” ومروءتة واعترافه بالحق لأهله ما فعله مع حاطب بن بلتعة الذي كتب إلى قريش خطابا يخبرهم فيه بما ينويه النبي وتحركات النبي وجيشه نحو مكة، فعفا النبي عنه كرامة لقتاله مع المسلمين يوم بدر، وقد كاد عمر من شدة غضبه أن يضرب عنقه لو لا أن منعه النبي “ﷺ” قائلا: قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو غفرت لكم.
أما عن حروب النبي ومعاركه فقد كانت مثالا للنبل والشرف والرفعة ولم لا وهو الذي يوصي أصحابه عند الاستعداد للمعركة قائلاً ما قاله في غزوة مؤتة: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً». فإن قتل العزل والشيوخ والنساء والتخريب والهدم تدل على خسة المحارب ودنوا مكانته، وفجر خصومته، وما أبعد نبينا عن هذا.
وفي الختام
أوصيكم ونفسي بتقوى الله والتقرب من سنة رسوله ومصطفاه لنتعلم نبل الأخلاق، وشرف التعامل في المحبة والعداوة، وفي الرضا والغضب، ومهما اشتد علينا الكرب، فإننا مهما حدث لن نبلغ بعض ما بلغ النبي من الاضطهاد ومع كل ذلك، ظل متمسكاً بكل مثل الشرف ونبل الأخلاق، ونسأل الله أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، ويجعلنا من المفلحين.