وهنا نلتقي بالأحبّة من الخطباء في كافَّة أرجاء البسيطة؛ ومعنا خطبة منبرية مكتوبة؛ تحت عنوان: ولا يجتمع الشح والإيمان. وهي أحد خُطَب الجمعة التي تُساق إلى كل أطياف المجتمع قاطبة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، أرشد عباده إلى ما فيه سعادة الدنيا والفوز يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل في الإيثار على النفس طريقا إلى بلوغ درجة المفلحين.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أكرم الخلق وأعظمهم إيثارا، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه المرتفعين بالإيثار مقاما وأقدارا.
الخطبة الأولى
أما بعد، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
أيها المؤمنون: إن هذا الدين الحنيف يدعو إلى كل ما من شأنه أن يرتفع بالإنسان إلى أعلى المراتب، ويعرج به إلى أرقى الدرجات، وإن من أعظم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام خلق الإيثار، وما أدراك ما خلق الإيثار! ذلك الخلق العظيم الذي تستقيم به حال الإنسان مع نفسه؛ فيكون مطمئن النفس، منشرح الصدر، له من الفلاح بمقدار نصيبه من الإيثار؛ فمن كان أعظم إيثارا كان أكثر فلاحا، وقد قال الله ﷻ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾، وبالإيثار تستقيم علاقة الإنسان بوالديه وأهله وأولاده، وجيرانه وأصدقائه، ومن يعملون معه ممن يكون مسؤولا عنهم أو مسؤولين عنه؛ فيكون التآخي والوئام، والتحاب في الله والتعاون على البر والتقوى.
وهذه الصفة الجليلة – عباد الله – لا تكون فردية فحسب، بل تكون من جماعة إلى جماعة، ومن أمة إلى أمة؛ لأن الإيثار معناه سماحة النفس بما هو لها لتحقيق مصلحة، وتحصيل فضيلة ومنفعة، وهل هناك شيء أعظم من أن يتنازل الإنسان عن حق دنيوي أو عن شيء هو له ليقوي بذلك آصرة قرابة أو أخوة في الله أو جيرة، ويئد فتنة قد تكون بينه وبين والده، أو بينه وبين أخيه، أو بينه وبين قريبه، أو بينه وبين أهله وأولاده في بيته، أو بينه وبين زملائه في العمل، أو بينه وبين جيرانه، وكم من إنسان كاد يكون بينه وبين أحد من الناس أو طائفة منهم عداوة محققة تأكل الأخضر واليابس، فلما تنازل عن شيء قليل مما له من حقوق معنوية أو مادية ذهبت تلك الفتنة التي كادت تكون، من غير رجعة غير مأسوف عليها، فنال من الفلاح ما لا يبلغ حقه الذي تنازل عنه عشر معشاره ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾، وقد قال ﷻ في موضعين من الذكر الحكيم: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وكم من أمة – أيها المؤمنون – كان فيها من العقلاء ما خلص أمتهم من شر مستطير، وما كان ليكون ذلك من غير الإيثار الذي دعا إليه الحق ﷻ، وكان فيه الرسول الكريم الأسوة الحسنة: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
وقد ضرب الله مثلا للناس حال الأنصار مع المهاجرين، مثلا سائرا إلى أن يقوم الناس لله رب العالمين، فقد هاجر المؤمنون من أهل مكة تاركين أموالهم ودورهم وأهليهم استجابة لله ورسوله، فما كان من أهل المدينة إلا أن آووهم، والعادة عند البشر ألا يقبلوا أحدا ينزل عليهم في دارهم، ويشاركهم في أرضهم ومالهم.
وقد اشتهر عند الناس قديما قولهم: “ويل للآهل من النازل”، غير أن أهل المدينة تركوا تلك المقولة خلفهم، وتخلصوا من الشح الملازم للنفوس، ورغبوا فيما عند الله، وآووا إخوانهم، وقسموا لهم من أرضهم وأموالهم، حتى استحقوا ثناء الله الخالد فيهم في قوله ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهذه خطبة الجمعة: الدين يسر «التيسير في العبادات والسماحة في المعاملات» — مكتوبة + ملف pdf
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه الأبرار المتقين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، وانظروا كيف أن الحق ﷻ ذكر الشح عند ذكر أحكام الأسرة في موضعين، والشح عكس الإيثار؛ فالشح عدم سماح النفس بشيء مما لها من المعنويات أو من الماديات، وإن من الشُّح أن يتمسك الإنسان بحقوقه ويفرط في واجباته، كان ذلك في بيته أو عمله أو بين أهله وجيرانه وأبناء مجتمعه.
وكَم من أسرة تشتت بعد ائتلاف شملها بغلبة الشح على الإيثار، فافترق الزوجان، وتعطلت مصالح الأولاد، وفاتت تربيتهم ومتابعتهم، والسبب كل السبب الأنانية التي سماها القرآن والنبي ﷺ شحا، ولو تنازل أحد الزوجين أو كلاهما عن قليل من الحق لما كان ما قد كان.
وفي مثل هذه الأحوال – أيها المؤمنون – يحضر الشح ويغلب على النفوس؛ ولذلك كان من أعظم الجهاد في سبيل الله أن يجاهد الإنسان شح نفسه، يقول ربنا ﷻ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، وقال في سورة التغابن: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وإذا كان الإيثار مفتاح الفلاح في الدنيا والآخرة، فإن الأنانية باب الشر والهلاك والعياذ بالله، وفي الأثر عن رسول الله ﷺ: «إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح؛ أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.