عناصر الخطبة
- رحمات الله ﷻ كالغيث تتنزل على عباده المؤمنين في مواسم الطاعات، ومنها موسم ﴿وليال عشر﴾ الليالي التي أقسم الله ﷻ بها لبيان فضل ليلها ونهارها.
- الليالي العشر المباركات في هذه السنة، فيها: جمعتان، ويوم عرفة، يوم جمعة في اليوم الثالث منها، وعرفة يوم تاسعها، وجمعة يوم عيد الأضحى، وهي بركات تتطلب من منّا رفع أكف الضراعة بالدعوات الصادقات لرب الأرض والسموات.
- من آداب الذهاب لأداء صلاة الجمعة أن نلبس الملابس النظيفة التي تسترنا، لا تشف عن العورات ولا تُجسِّمها، لأن المصلين في بيوت الله ﷻ يقابلون رب العالمين، وحريٌّ بأن نحرص على نظافة القلوب مع نظافة الأبدان؛ لأن الله لا ينظر إلى أجسادنا وإنما إلى قلوبنا وأعمالنا التي منها أن نلبس أنظف الثياب، ونتطيب بأحسن الطيب؛ لأننا ضيوف الرحمن سبحانه.
- ومن الآداب الشرعية الوقائية المحافظة على لبس الكمامات والقفازات بشكل صحيح، لأن الوقاية من الوباء صورة من صور الإيمان، وهي لون من ألوان النظافة.
- علينا تعليق القلوب بعلام الغيوب سبحانه كما فعل سيدنا يونس عليه السلام في دعائه ﴿لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ ليفرج الله عن المسلمين الكرب وخاصة أننا نعيش ليال مباركات.
الخطبة الأولى
نعيش في هذه الأيام المباركات نفحات رحمة الله ﷻ بالمؤمنين، لنتنسم نسمات الرحمات التي تتنزل علينا كالغيث في ساعات التجليات، إنها أيام الثلث الأول من شهر ذي الحجة في هذه السنة التي فيها صلاة الجمعة في الثالث منها، ويوم عرفة في التاسع منها، وختامها صلاة الجمعة يوم النحر، يوم عيد الأضحى، فهي بركات متتابعات تستحق الإكثار من الطاعات. فليحرص المسلم على استثمار أوقاته في هذه الأيام المباركة بالعبادات والطاعات لقول النبي ﷺ: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام» –يعني أيام العشر– قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.» ← صحيح البخاري.
ويكفي في فضلها ومكانتها أن الله أقسم بها فقال ﷻ: ﴿وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ الفجر: 1–2، وهي عشر ذي الحجة بإجماع المفسرين، وتقدير الكلام بحذف الموصوف، أي: وليال أيام عشر، فجاء الحذف، لبيان أن الصوم لا يكون إلاّ لتسعة أيام، ولنفقه أن الليل يسبق النهار.
والحق أن الأعمال الصالحة في هذه الأيام لا تقتصر على الحجاج، وإنما تشمل الجميع، الحجاج والمقيمين في أوطانهم.
ومن هذه الأعمال الصالحة:
صيام الأيَّام التسعة الأوائل والتي تاسعها صيام يوم عرفة الاغر، وهو اليوم الذي أكمل الله ﷻ فيه الدين وأتم نعمته على المؤمنين: قَالَ ﷻ: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ ِنعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]. وقد ورد عن النبي ﷺ أن صيام هذا اليوم يكفر سنتين، فقال النبي ﷺ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» ← رواه مسلم.
كما يشرع الإكثار من تكبير الله ﷻ في هذه الأيام مع الجهر به، وكان ابن عمر، وأبو هريرة: «يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» ← صحيح البخاري. فيشرع تكبير الناس في جميع أماكنهم وأحوالهم، وفي سائر الأوقات مِن ليلِ أو نهار.
ونحن في هذه الأيام وقد عاش المسلمون ظروفاً طارئة استثنائية لم تمكنهم من الذهاب لأداء فريضة الحج هذا العام، حرصاً على سلامتهم وصحتهم، إلا أن آثار الحج وثمراته وغاياته لا بدّ أن تبقى حية في قلوب المسلمين، فإن حال عذر عن زيارة بيت الله الحرام هذا العام، فلا يمنع ذلك المؤمنين في كل مكان من إحياء هذه الأيام بالصلاة والذكر والتسبيح.
وإن كانت زينة الحج بالتكبير والتجرد من الثياب في هذا العام قد غابت عن حجاج بلدنا، فإن زينة صلاتنا واجتماعنا في بيوت الله باقية بتجرد القلب عمّا سوى الله ونزع ما بيننا من عداوة وبغضاء، ثم الاستعداد للقاء رب العالمين، ملك يوم الدين، الذي يفتح أبوابه لعباده الصالحين الصادقين ويتجلى عليهم برحماته في يوم الجمعة العظيم، فاجتماعنا في يوم جمعتنا هو يوم عيد وفرح، فينبغي على المسلم الحرص على التجمل بأحسن الثياب والتزين بأفضل زينة للقاء الملك الوهاب، وقد قال الله ﷻ: ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ الأعراف: 31.
فإذا كان اجتماع الإنسان مع ملك من ملوك الدنيا ليقلّده وساماً يُعدُ يومَ عيد وجائزة يستعد له أكبر استعداد، ويلبس النفيس من الثياب، حتى يتجلى بأبهى صورة، فكيف بمن يذهب إلى بيت من بيوت الله ﷻ ليقابل مالك يوم الدين، الملك الحق ﷻ الذي يغيث الملهوف ويقضي حوائج المحتاجين، ويتجلى على عباده بالرضى والنور يوم الدين.
فعلى كلّ مصلٍّ أن يستعد استعداداً يليق بهيبة المكان وربّ المكان، فيحرص على لبس الملابس النظيفة التي تستر العورة، وأن يبتعد عن الملابس الضيقة التي تجسِّم العورة أو قد يظهر منها شيء عند الركوع والسجود فتبطل بذلك صلاته، وكذلك أن لا يلبس الملابس التي تحتوي على كلمات وعبارات لا تليق بالمسلم، وكذلك عليه ألاّ يلبس الملابس التي لا تليق بمكانة المكان واحترامه كملابس النوم أو ملابس العمل والمهنة التي لا يقبل أحدنا أن يستقبل بها ضيفاً من الضيوف، فكيف يرضى أن يقابل بها ربّ العزة، وملك الملوك.
وليعلم رواد صلاة الجمعة المحافظين عليها أن الله ﷻ سيرد لهم هذه الزيارة يوم القيامة ويتجلى عليهم فيفرحون بلقائه، فمن أراد الفرح بذلك اللقاء فعليه أن يحرص على صلاة الجمعة وأن يكون بخير حلّة وأن يلبس ما يليق بالمقام الذي هو فيه، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «سَارِعُوا إِلَى الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ﷻ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي الْكُثُبِ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ، فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْجُمُعَةِ، فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا» ← سنن الدارقطني.
ومن آداب حضور الجمعة والجماعات كذلك في هذه الأيام خاصة التقيد بلبس الكمامة بحيث تغطي الأنف والفم معاً لا أن توضع الكمامة على الفم أو الذقن فقط، وكذلك لبس القفاز وإحضار سجادة الصلاة عند كل صلاة، والالتزام بالتباعد الجسدي، وترك المصافحة بعد الصلاة، حرصاً على سلامة المجتمع من نقل الأمراض والأوبئة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
لئن لم يتمكن المسلمون في هذا الموسم من الحج والوصول إلى بيت الله الحرام، فليوطنوا أنفسهم اليوم على ترك كل ما هو حرام، وإن لم يستطيعوا الوصول والطواف حول الكعبة، فإن في بيوت الفقراء والمساكين والمحتاجين اليوم من هم بحاجة لزيارة بيوتهم، فمن كان قاصداً الحج هذا العام تطوعاً، فإن له بصدقته على الفقراء والمحتاجين أجراً عظيماً قد يفوق أجر حجّ التطوع.
وقد ورد عن فقهاء الأمة أنهم “كانوا يرون أنه إذا حج مرارًا أن الصدقة أفضل”، وقد خرج عبدالله بن المبارك رحمه الله في الحج سنة فلقي فتاة تقول له: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام. فدفع إليها نفقة الحج، وقال: هذا أفضل من حجنا في هذا العام. ثم رجع.
وقال الحسن البصري رحمه الله: “يقول أحدهم: أحج أحج. قد حججت، صِلْ رحمًا، نَفِّسْ عن مغموم، أحسنْ إلى جار” رواه الإمام أحمد في “الزهد”.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: “يضعها في أكباد جائعة أحبُّ إليَّ –يعني من حج النافلة–”.
فواجب الامة في هذا الزمان ان تستثمر مواسم الخير التي جعل الله ﷻ لها، وان تركب سفينة النجاة المتمثلة بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ حتى يعود له عزها وتسمو على ما سواها.
والحمد لله رب العالمين..