عناصر الخطبة
- عُمُر العبد ورزقه وشقي أو سعيد مما قدره الله ﷻ عند نفخ الروح، فلا يذهب المسلم نفسه حسرات على الرزق، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، يرزقنا من حيث لا نحتسب.
- مفاتيح البركات المباركات كثيرة، ومن أعظمها : تقوى الله ﷻ، فإن من يتق الله يجعل لها مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، فإذا تحققت التقوى صار العبد مستقيماً، مداوماً على الطاعات التي تحقق له السعادات في الحياة وبعد الممات.
- ومن مفاتيح البركات صلة الرحم، وهي مأخوذة من الوصلة والاتصال فتزيد في العُمر، فإن العُمر هو الحياة، والحياة عيش الإنسان منذ يولد حتى يموت، فإذا أدخل السرور والمودة على القلوب طابت حياته، ومن فقد طيب الحياة فقد نقص عيشه وخسر عمره.
- على المسلم أن يحرص على ذكر اسم الله ﷻ في كل عمل يبتدر القيام به من مأكل أو مشرب أو إنفاق مال، حتى يشعر ببركته، كما جعل الله ﷻ في تعاهد القرآن الكريم وقراءته والعناية به بركةً في الوقت والحياة، يشعر بها الإنسان في كل لحظة من لحظات عمره.
- ومن مفاتيح البركات الاستغفار، فإن الاستغفار غذاء الروح، والروح هي معدن البركات إذا تعلقت بخالقها ﷻ، وجعلت صاحبها في إخبات يردد دعاء يونس عليه السلام (لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
الخطبة الأولى
خلق الله ﷻ الإنسان وجعل له أجلاً مكتوباً، ورزقاً معلوماً، فقال ﷻ: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فاطر: 11، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ هود: 6.
والإنسان في هذه الحياة مهما تعرض لمحن وابتلاءات، فإن طبيعته أنه يطمع بالزيادة في الخير والرزق والعمر، وربما ضاقت الأعمار عن الآمال التي في ذهنه، فعن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: «هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ – أَوْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ – وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا » ← متفق عليه.
ومن نعم الله ﷻ على المسلمين أن دلّهم على ما يبارك لهم في أعمارهم التي تنمو بها الأعمال الصالحة، ويتضاعف بها الإنتاج، فعليهم أن يستكثروا بها من فعل الخيرات، ويستشعروا متعة الحياة، وأن يعيشوا ظروفها بقلب مطمئن ونفس راضية، مع استقرار الحال وراحة في البال.
والحق أن البركة إذا وضعت في الرزق، شعر الإنسان بكثرة المال، وتلمس خيره، وهي نعمة من نعم الله السابغة التي لا تعد ولا تحصى، قال ﷻ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النحل 18.
ومن لطائف عبارات العارفين كلام ابن عطاء الله السكندري رحمه الله ﷻ: “رُبَّ عُمْر اتسعت آماده وقَلَّتْ أمْدادُه، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده فمن بورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمن من منن الله ﷻ ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة”.
أي أن البركة في العمر والعمل هي عطاء من الله ﷻ، فكم من الصالحين والعلماء الذين عاشوا زمناً قصيراً كان لهم تأثير عظيم، وإنتاج غزير، فهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس، توفي وهو ابن سبع وثلاثين، ومكث في الإسلام ست سنوات فقط، ومع ذلك يقول النبي ﷺ يوم وفاته: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ← متفق عليه.
فأي بركة كانت في عمر سعد وفي عمله حتى يهتز لموته عرش الرحمن، وهذا الإمام الشافعي، توفاه الله ﷻ وهو ابن أربع وخمسين سنة، وقد ترك إرثاً أضاء المشارق والمغارب، إلى يومنا هذا من الفقه والعلم، والإمام الغزالي رحمه الله ﷻ، عاش خمساً وخمسين عاماً، عاش خلالها عالماً مجتهداً، حتى لقبه العلماء بحجة الإسلام، لما كان له من جهود عظيمة في الانتصار للإسلام والذب عن حياضه في وجه أعداء الدين والحق، فما وضعت البركة في أمر، إلا زاد ونما، وما نُزعت البركة من أمر إلا نقص وهلك.
وقد أرشدنا الله ﷻ إلى سُبُل تحصيل البركة في العمر والعمل والرزق، ومنها الحرص على تقوى الله ﷻ في السرّ والعلن، ومراقبة الله ﷻ في كل عمل يقبل عليه الإنسان، وفي كلّ مال ينفقه، قال الله ﷻ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ الأعراف: 96، فمن راقب الله ﷻ واستقامت أفعاله، بارك الله ﷻ له فيها، وأثابه عليها، قال ﷻ: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ الجن: 16
ومن سبل ووسائل زيادة البركة في الأعمار والأرزاق صلة الأرحام وتفقد أحوالهم والإنفاق عليهم، يقول النبي ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ← متفق عليه.
فمن تعاهد أرحامه بالصلة والنفقة تعاهده الله ﷻ بتسهيل رزقه، وتيسير أمره، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» ← صحيح البخاري، فالمنفق في سبيل الله ﷻ هو في رعاية الله وتحت عنايته.
وينبغي للمسلم أن يحرص على ذكر اسم الله ﷻ في كل عمل يبتدر القيام به من مأكل أو مشرب أو إنفاق مال، حتى يشعر ببركته، وقد قال النبي ﷺ: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه» ← صحيح مسلم.
كما جعل الله ﷻ في تعاهد القرآن الكريم وقراءته والعناية به بركةً في الوقت والحياة، يشعر بها الإنسان في كل لحظة من لحظات عمره، مصداقاً لقوله ﷻ: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام:155]، ومعنى مبارك أي: كثير المنافع والفوائد، وقد وصفه الله بالبَرَكَة لأنه يبارك من اتبعه وعمِل به.
كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه– يَقُولُ: “الْبَيْتُ إِذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ، ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَتَنَكَّبَتْ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَحَضَرَهُ الشَّيَاطِينُ”.
⬛️ وهنا: خطبة عن الرزق وأسبابه ومفاتيحه
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
ومن أبواب زيادة البركة في الرزق والعمر أن ينظم الإنسان أوقاته، فلا يهدرها فيما لا فائدة فيه، وأن لا تشغله ملهيات الحياة عن مهمته الحقيقية، وأن يتحرى الإنسان الكسب الحلال، وأن يبتعد عما فيه شبهة أو معصية، لأن ذلك سبب في نزع البركة من المال، ومثاله الاستدانة من الناس بهدف الاحتيال عليهم، وعدم السداد، وقال ﷺ: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللَّهُ» ← صحيح البخاري.
ومن أهم وسائل تحصيل البركة في الأرزاق والأعمار كذلك إفشاء السلام على منْ عرفت ومن لم تعرف. قال ﷻ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ النور: 61، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» ← سنن الترمذي.
وأن تسود أجواء الطمأنينة والمحبة والرحمة بين الزوجين في المنزل، ودعاء الوالدين لأولادهما بالبركة والرزق، فإن ذلك من أهم أسباب التوفيق في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقد كان النبي ﷺ يدعو لأصحابه بالبركة في رزقهم من مال ووقت، والتحذير من دعاء الإنسان على نفسه أو ماله أو عياله، فإن ذلك مما نهى عنه النبي ﷺ، وقد مرّ رسول الله ﷺ على قوم فسمع رجلاً يلعن بعيره، فقال: «من هذا اللاعن بعيره؟» قال: أنا، يا رسول الله قال: «انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم» ← صحيح مسلم.
والحمد لله رب العالمين..