مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم المنان، يسر لعباده سبلا لنيل المغفرة والعتق من النيران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، سيد المستغفرين، وأفضل الخلق عبادة لله رب العالمين، ﷺ وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي باقتفاء أثر المتقين ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: هذه أيام رمضان المباركة تتهيأ للرحيل، ويوشك أن تغرب شمسه وتنصرم أيامه، فما بقي لنا إلا يوم أو يومان وضيف الكرامة سيرحل، لكن من أكثر ما أثلج الصدر وأبهج النفس في شهرنا هذا إقبال الناس فيه على الطاعة، فتوجه الصغير والكبير إلى الله يرجون رحمته ويتسابقون إلى عفوه خوفا وطمعا ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، وهم أهل الصيام والصلاة والصدقة.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون»، فهم مع إسباغهم على أنفسهم بالطاعات طيلة شهرهم لا يفترون، بل تجدهم يسابقون أنفسهم لنيل أعلى الدرجات ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
عباد الله: لا عجب أن من تمام النعمة أن يكون العبد شاكرا لله أن أكرمه بالإحسان في رمضان إقبالا إليه، وسعيا إلى نيل الخير بين يديه، يقول الله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
وإن من صور الشكر كثرة الذكر لله تعالى تكبيرا وحمدا واستغفارا، ولا ريب فإن من أجمل ما يختم به العبد عمله الصالح كثرة الاستغفار؛ فهو مدعاة إلى القبول، وذلك سبيل الفوز المأمول.
وقد رغبنا ربنا جل وعلا فيه بعد العمل الصالح فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ومما يبرز عظمة الاستغفار أن الله تعالى أمر نبيه ﷺ به بعد تحقيق معنى الإيمان، فقال سبحانه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾.
فحري بالعاقل اللبيب أن يشغل ساعاته الأخيرة من رمضان بكثرة الاستغفار وذكر الله الغفار، فيقول مثلا كما جاء عن النبي ﷺ في سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
فاتقوا الله -عباد الله-، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة مشكولة لآخر جمعة في شهر رمضان المبارك
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله الأمين، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد، فيا عباد الله: اعلموا -رحمنا الله وإياكم- أن الدين الحنيف رتب لكم أعمالا تختمون بها شهر صيامكم، إظهارا للتآلف وإبرازا للوحدة ومراعاة للتكافل الاجتماعي، فأمر القادر من المسلمين بأداء زكاة الفطر بعد غروب شمس رمضان طهرة لنفسه وإطعاما للمحتاجين من إخوانه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين»، وهذه الزكاة لها ميقات زماني ينتهي بأداء صلاة العيد يوم الفطر. وفي الحديث: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».
وهي واجبة على من وجد قوتا زائدا على حاجته وحاجة عياله وقت أدائها، فيخرجها المسلم عنه وعن جميع من يلزمه عولهم من غالب قوت أهل البلد، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة».
ومن هذه الأعمال -عباد الله- صلاة العيد، وهي شعيرة جعلها الله تعالى رمزا للوحدة وصورة لإظهار التعظيم لله العظيم، وقد حافظ عليها النبي ﷺ بل أمر النساء وربات الخدور بشهودها، فعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله ﷺ أن نخرج ذوات الخدور يوم العيد، قيل: فالحيض؟ قال: «ليشهدن الخير ودعوة المسلمين».
فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على أداء صلاة العيد مع الجماعة ولا تتكاسلوا عنها، ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.