إن خطبة عن محبة النبي لأمته ليست الوحيدة لهذا الموضوع، وليست السبيل الوحيد لمعرفة ذلك؛ بل على العكس تمامًا. فالقرآن الكريم والكثير من مواقفه ﷺ مع زوجاته وبناته وصحابته الكِرام، فضلا عن كَم الأحاديث الكثيرة التي تعكس تلك المحبَّة منه ﷺ لأُمَّته.
إن حب النبي لأمته يظهر جليًا في كل شيء، في حرصه على هدايتهم، وفي إرشادهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة.. لكِن دعونا نقرأ خطبتنا اليوم ونكتشف ذلك عن كثْب..
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يختص برحمته من يشاء، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، المخصوص بالنعم والآلاء، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه المهتدين الأتقياء.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- وأحسنوا ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: تدبروا تدبر مُحِب لرسول الله ﷺ قول ربه في صفته: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾، فإنها شهادة الله لنبيه ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾، فإن في هذه الصفة بيانا لعظيم حب النبي ﷺ لنا، بل ليس هناك مخلوق يحب الخير للناس كرسول الله ﷺ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم»، وهل هناك شيء أعظم من أن يقترب الإنسان من الجنة ويتزحزح عن النار!
وقد قال ربنا ﷻ: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، نعم ﴿فَقَدْ فَازَ﴾، والنبي ﷺ يريد لنا الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، وذلك هو الحرص الذي وصف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه ﷺ يكاد يبخع نفسه من شدة تحسره على من لم يؤمن من الناس، وقد ذكره ربه جل جلاله بذلك في موضعين من الكتاب العزيز، يقول الحق ﷻ: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، وقال جل جلاله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
و«باخع نفسك» – رحمكم الله – أي مهلك نفسك من شدة حرصك على هدايتهم وهم لا يهتدون، وقد أراد الله بذكر هذا الأمر أن يبين لنا عظيم حرصه علينا، وكبير حبه لنا، ودرجة إحسانه إلينا؛ فكيف بذي فطرة سوية لا يحب إنسانا يحرص عليه كل هذا الحرص، ويحب له الخير كل هذا الحب، ويحسن إليه كل هذا الإحسان.
وقد سرى الله ﷻ عنه، وأراد أن يخفف عنه فقال له: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾، ومن عظيم حرص النبي ﷺ على أهل الإيمان أنه يريد لهم أن يرتفعوا من درجتهم تلك من الإيمان إلى درجة أعلى، ومن مقامهم ذلك من الهداية إلى مقام أرفع؛ ليكونوا من الذين إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيمانا، وقد قال الله ﷻ فيهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ | الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ | أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، ويكونوا من الذين قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾.
وقد صور النبي ﷺ حرصه على ارتقاء أهل الإيمان إلى أعلى الدرجات في ذكره لنا رؤيا رآها، فكانت ضرب مثل للذين آمنوا يقرب المعنى إليهم، ويجلي الحقيقة لهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ أتاه فيما يرى النائم ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر، انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك، إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء، أتتبعوني؟ فقالوا: نعم. قال: فانطلق بهم، فأوردهم رياضا معشبة، وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء، أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى. قال: فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتبعوني. قال: فقالت طائفة: صدق والله، لنتبعنه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه»، فأي حرص أعظم من هذا الحرص! وأي محبة أعظم من محبة رسول الله ﷺ الخير للناس.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهذه -يا أفاضِل- خطبة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن من حرص النبي ﷺ تتبعه شؤون أتباعه؛ فتجده يواسي المحزون، ويعين المحتاج، ويفرج عن المكروب، ويرحم الصغير ويوقر الكبير، وتجده مع الناس في أفراحهم وأحزانهم، وشؤونهم وأحوالهم؛ ليضرب بذلك مثلا للناس، ويكون لهم الأسوة الحسنة في كل شيء، وتلك تربية الله لنبيه، وقد كان على ذلك قبل بعثته، وازداد إحسانا إلى إحسان، وحرصا إلى حرص بعد بعثته؛ أليس هو الذي قالت عنه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عندما جاءها بعد نزول الوحي عليه أول مرة: «والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق»، فكان كما أخبر عنه ربه ﷻ: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾، وهل هذا إلا من الخلق العظيم الذي وصفه به من أدبه فأحسن تأديبه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
فاللهم صل وسلم وبارك عليه.
وختامًا؛ أود أن أترككم يا إخواني، بعد أن قدمت إليكم أعلاه خطبة عن محبة النبي لأمته؛ هذه أيضًا خطبة مكتوبة عن فضل الصلاة على النبي ﷺ. والله أسأل أن ينفعني وإياكم من فيض كرمه وعظيم سلطانه بالعِلم النافِع.