عناصر الخطبة
- أمر الله ﷻ عباده بالإصلاح بكل معانيه، ونهاهم عن الفساد في الأرض بجميع صوره. فإن التحلية بالصلاح والطاعات مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء فهي صالحة لكل زمان ومكان ومُصلحة في كل وقت وآن
- الفساد كبيرة من الكبائر لأن فيه إهلاكاً للحرث والنسل وتقويضاً لأركان المجتمع وتقطيعاً لأوصاله، ولذلك يجب على الجميع محاربة الفساد ليظل المجتمع قوياً متماسكاً.
- الفساد الأخلاقي هو أساس كل أنواع الفساد كالفساد المالي والإداري والتعليمي وغيرها لأن الفاسد في أخلاقه سيجعل كل ما يصل إليه فاسداً، فحريٌّ بكل مسلم أن يقتدي بصاحب الخلق العظيم ﷺ.
- مهمة الاستخلاف في الأرض توجب على الإنسان أن يعمرها بالصلاح المادي المتمثل بالبناء الحضاري والحفاظ على مقوماتها، وبالعمارة المعنوية المتمثلة بالإيمان بالله ﷻ وعبادته.
- الإصلاح يبدأ من النفس ومن ثم يصلح المجتمع كله ويكون ذلك بالطرق والوسائل المشروعة التي تعظم المنجزات وتغير بالحسنى المساوئ ولا تكون بالانجرار وراء الدعوات الهدامة التي تريد الإخلال بأمن الوطن أو الخروج على القوانين والإخلال بالنظام العام.
- الحفاظ على دعاء سيدنا يونس عليه السلام (لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
الخطبة الأولى
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية نشر الخير والفضيلة والقضاء على الفساد والمعاصي، فقد أمر الله ﷻ بالإصلاح بكل معانيه، ونهى عن الفساد في الأرض بجميع صوره، فإن التحلية بالصلاح والطاعات مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء فهي صالحة لكل زمان ومكان ومُصلحة في كل وقت وآن.
لقد خلق الله ﷻ الكون وما فيه من نعم تسخيراً للإنسان، وخلق الأرض صالحة نقية لا فساد فيها، واستخلف الإنسان في هذه الأرض الصالحة، وأمره أن يعمرها بالصلاح المادي المتمثل بالبناء الحضاري والحفاظ على البيئة، وبالعمارة المعنوية المتمثلة بالإيمان بالله ﷻ، وطاعته وعبادته وتمثله بالقيم والأخلاق الحميدة، لذلك نهى الله ﷻ عن إفساد مقومات الحياة بعدما أصلحها له وائتمنه عليها فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ الأعراف: 56.
وقد نهى الله ﷻ عن الفساد في الأرض بجميع صوره، وبين سبحانه أنه لا يحب الإفساد ولا المفسدين، قال سبحانه: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص: 77، فالفساد كبيرة من الكبائر، وضرره كبير وخطره عظيم، يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، وانحلال عرى المجتمع، وتشتت أوصاله، قال ﷻ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ البقرة: 204–205.
فالموظف الذي يتساهل في أداء وظيفته، والعامل الذي لا يتقن صنعته، والمسؤول الذي يفرط في مسؤوليته، بل ورب الأسرة والأم في البيت الذين يتهاونون فيما وجب عليهم من الأمانات المنوطة بهم، كلهم أفسدوا بسوء فعلهم وتقصيرهم في الواجب الذي كلفوا به.
ومن أعظم صور الفساد الاعتداء على الموارد العامة في البلاد، واستغلال المناصب والوظائف العامة لتحقيق مصالح شخصية خاصة أو الواسطة التي تقوض مبدأ العدالة بين أبناء المجتمع الواحد، أو أخذ الرشاوى المحرمة التي نهى عنها النبي ﷺ في قوله: «لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي» ← سنن أبي داود.
ويقول النبي ﷺ : «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ» ← متفق عليه.
وقد توعّد الله ﷻ المفسدين بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة، فإنّ الفساد في الأمة طريق إلى ضياعها ومحق البركة منها، قال ﷻ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الروم: 41، فإذا ظهر الفساد بسبب ذنوب الناس ومعاصيهم، عاقبهم الله ﷻ بالابتلاءات حتى يؤدبهم فيرجعوا إلى طريق الرشد والصلاح.
وفي مقابل وعيد الله ﷻ للمفسدين فقد جاء وعد الله ﷻ لعباده المصلحين بالنصر والتمكين، فقال ﷻ: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ الأعراف: 9، وقال ﷻ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ هود: 117، فالله ﷻ يثيب العبد المصلح فهو جل وعلا يعلم من نيته الإفساد ومن قصده الإصلاح، قال ﷻ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ البقرة: 220.
وقد مدح النبيّ ﷺ، اليدَ العفيفة، التي تأخذ المال بنزاهة وبوجوه الحقّ المشروعة، ثمّ تكون نافعةً لغيرها، يقول النبي ﷺ: «اليدُ العليا خيرٌ من اليدُ السفلى، ولْيبدأ أحدُكم بمنْ يعول، وخيرُ الصدقةِ ما كان عن ظهر غِنًى، ومن يستغنِ يُغنِه اللهُ، ومن يستعففْ يعفَّه الله» ← مسند الإمام أحمد.
والعفة صفة من صفات المؤمنين من أهل الجنة، فقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: «وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مُقْسطٍ متصدقٍ موفقٍ، ورجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» ← صحيح مسلم، فَهُنا ثناءٌ للمسلم الذي يملك نفسه، فيعفها عن الحرام ويتعفف عن أكل الحرام أو إطعام أبنائه المال الحرام.
الخطبة الثانية
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب: 71.
عباد الله: إن الإصلاح يمحق الفساد ويستأصله من المجتمع، وإن ميدان الإصلاح واسع شامل، وهو من المهام التي شرف الله ﷻ بها هذه الأمة، من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل خيريتها متعلقة بهذا الفعل العظيم، قال ﷻ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران: 110، فالإصلاح سبيل النجاة من العذاب والهلاك الذي تسببه المعاصي والذنوب، وهو حصن للأمة من الشرور والفتن، قال ﷻ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ هود: 117.
وينبغي أن يبدأ الإصلاح بالنفس والأهل والإصلاح الأخلاقي والابتعاد عن الفساد الأخلاقي فإنه سبب لكل فساد مالي وإداري وغيره.
وينبغي أن يكون الإصلاح بالطرق والوسائل المشروعة، لا بالانسياق وراء الشائعات الكاذبة التي تقوض أركان المجتمع، لا تكون بالانجرار وراء الدعوات الهدامة التي تريد الإخلال بأمن الوطن أو الخروج على القوانين والإخلال بالنظام العام.
ومع توقف نزول المطر علينا الإكثار من الاستغفار، وخاصة دعاء سيدنا يونس عليه السلام (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) لعل الله ﷻ يسقينا الغيث العميم، وأن يجعلها سقيا رحمة تعم السهول والجبال والوهاد، فأكثروا عباد الله من الاستغفار؛ فإنه الدواء لكثير مما نعاني من أدواء الفساد.
والحمد لله رب العالمين..