الإخوة الأئمة والخطباء في كل بقاع المعمورة عامَّة، وفي أرض الأردن الغالي خاصَّة. هذه خطبة جمعة بعنوان: الهجرة النبوية، تجديد للأمل وصدق في التوكل والعمل. نسوقها إليكم، مكتوبة، كاملة، جاهزة للإلقاء أو التحميل أو الطباعة؛ بمناسبة حدث الهجرة النبوية المشرَّفة، ووداع وحلول عام هجري جديد.
الخطبة الأولى
في هذه الأيام يستذكر المسلمون ذكرى هجرة النبي محمد ﷺ والتي تعد مبتدأً للتأريخ الإسلامي، فقد كانت أساساً لبناء هوية الأمة، وعنوان استقلالها، ومنطلق نهضتها، بعد أن عانى المسلمون أعواماً عديدة صابرين على الأذى، مُحتملين مرارة العيش، بين قومٍ حُجبت قلوبهم عن أنوار الهداية، وعشيت عيونهم عن رؤية الحق الأبلج.
وإن كانت الديار هي خير البقاع عند الله، وأحبها إلى رسوله، إلا أن قلوب أهلها استوطن فيها الشرك حتى أصبحت كصخرة صماء، في صدور جرداء، أبت أن تستقبل بذور الإيمان، فلقي المسلمون على مدار ثلاثة عشر عاماً من العذاب الجسدي والنفسي، والحصار الاقتصادي، ما دفعهم إلى ترك تلك الديار، ورسول الله ﷺ يردد: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» سنن الترمذي.
وقد شاءت حكمة الله ﷻ أن تكون المدينة المنورة هي الأرض الخصبة لبناء الإيمان والإنسان، وبناء هوية الأمة الإسلامية وحضارتها، ثم العودة لاستكمال مسيرة البناء في مكة المكرمة قال ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
وبين مكة المكرمة، والمدينة المنورة، كانت رحلة الهجرة المباركة، التي جاءت بأحداثها العظيمة لتحيي في قلوب المؤمنين الأمل، وتزرع في نفوس اليائسين الرجاء، وتداوي جروح المُعذبين في شعاب مكة المكرمة، لقد خرجت تلك النُّخبة الطاهرة، لتعلّم الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة أن الأمل معقود على وعد الله ﷻ، وأن ثقة المؤمن بربه راسخةٌ رسوخ الجبال، بأنه سيحقق وعده وينصر عباده، ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾.
وقد كان النبي ﷺ حريصاً على زرع ثقافة الاستبشار والأمل عند الصحابة حتى في أحلك الظروف وأقساها، فهذا خباب بن الأرت رضي الله ﷻ عنه، يأتي إلى النبي ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فيقول له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» صحيح البخاري.
وتتجدد روح الفأل الحسن عند النبي ﷺ في رحلة الهجرة المباركة، مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله ﷻ عنه، ويدخلان في غار ثور، ورماح الأعداء تحيطهم، وسيوفهم ترصدهم، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فما كان من النبي ﷺ إلّا أن قال له: «يا أبا بكر؛ ما ظنك باثنين الله ثالثهما» متفق عليه، فتجلّت بذلك نصرة الله ﷻ لنبيه الكريم، بحسن التوكل على الله، وحسن الظنّ به ﷻ، يقول ﷻ: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
إن التوكل على الله ﷻ، ونشر ثقافة التفاؤل في ساعات القلق والمحن أمر مطلوب شرعاً، بل هو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي دلنا عليه الله ﷻ في القرآن الكريم، فالله ﷻ يخاطب سيدنا نوح فيقول له: ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾، وسيدنا يوسف عليه السلام يقول لأخيه ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ﴾، وسيدنا يعقوب عليه السلام يقول لأبنائه: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾.
وسيدنا شعيب يخاطب موسى عليهما السلام: ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، وكان آخرهم نبينا ﷺ حين خاطب صاحبه فقال له، ثقة بالله، وحسن ظنٍ به: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
بل زاد النبي ﷺ في هذا التفاؤل وحسن الظنّ بالله ﷻ، فكان وهو يمشي في صحراء قاحلة ترقُب عيناه المستقبل السعيد ويَعِدُ من يُلاحقه بأهم ممتلكات ملوك ذلك الزمان، فقد وعد رسول الله ﷺ سراقة بن مالك بسواري كسرى، فالمسلم يحرص على نشر جو التفاؤل في مجتمعه، حتى في أحلك الظروف وأشدها، ولا ينمي شعور الإحباط والتشاؤم في مجتمعه، مع الحرص على النية الصالحة التي يبتغي فيها المسلم وجه الله ﷻ، وهذا هو منهج النبي ﷺ الذي كان يقول: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمِ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» مسند الإمام أحمد.
لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة في ظاهرها خروجاً من الديارِ ومفارقةً للأهل، وتركاً للأموال، وغربةً عن الأوطان، ولكن باطنها كان رحمةً تستقبلهم على مشارف المدينة المنورة، ومنحةً تأتيهم بعد محنة، وإخوة ينتظرونهم من الأنصار، وانتقالاً من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، ومن مرحلة الفرقة إلى مرحلة الوحدة، وحال المسلمين بعد الهجرة اختلف تماماً عما كان عليه المسلمون قبل الهجرة، بعد آن آخى بينهم النبي ﷺ فأصبحوا إخوة بعد أن كانوا أعداءً وصاروا أمة بعد أن كانوا فرادى متفرقين يعبدون الله على خوف، قال ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
فنتعلم من الهجرة النبوية أن بناء الوطن يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحتضنه، ورجال تفديه وتنصره، وتضحيات يؤثر بها الإنسان على نفسه، وإخلاص في الجهد والعمل لبناء أركانه، وقد ضرب الصحابة من المهاجرين والأنصار أروع الأمثلة في الوقوف صفاً واحداً متآخين متحابين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
تعلمنا الهجرة النبوة الشريفة أن الأمّة التي أسسها النبي ﷺ لم تقم على مشاعر وجدانية مجردة، ولم تقم على ردات فعل عشوائية، بل هي ثمرة تخطيط سليم، ومنهج قويم في التفكير، وتنظيمٍ للجهود، وتوظيفٍ للقدرات.
فحين أراد النبي ﷺ الهجرة من مكة إلى المدينة، كان التخطيط السليم حاضرا في كل مراحل عمله، فقد أحاط الأمر بالسرية التامة، واستعان بذوي الكفاءة والمهارة والاختصاص فاتخذ دليلاً يرشده في الصحراء، وصاحباً صالحاً يرافقه في السفر، واتخذ طريقاً يقيه من الأعداء، وعمل على توزيع الأدوار والمهام بين المساهمين معه لإنجاح هذا الحدث الكبير، وبعد ذلك انطلق مهاجراً متوكلاً على الله وحده، وكله ثقة بنصر الله ﷻ له وللمسلمين.
يقول الله ﷻ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
ولا تفوتكم هنا: خطبة الجمعة عن بداية العام الجديد
ملخص الخطبة
- بداية كل عام هجري يستذكر المسلمون الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقد كانت فكرة التاريخ الإسلامي بها تدل على حرص المسلمين على بناء شخصيتهم المستقلة بين الأمم، فكانت المدينة المنورة هي الأرض الخصبة التي هيأها الله ﷻ للنبي ﷺ لتكون نقطة البداية لبناء الإنسان والأمة، ثم العودة لاستكمال مسيرة البناء في مكة المكرمة بعد أن تتجهز لاستقبال أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار.
- من أهمّ الدلالات المُستفادة من الهجرة النبوية التي ينبغي أن يتعلمها المسلمون صدق اليقين بأن النبي ﷺ رسول رب العالمين أرسله الله رحمة للعالمين وأن هجرته ﷺ تتفق مع منهج إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
- وهو مما يدعونا لنشر ثقافة التفاؤل في ساعات القلق والمحن أن يكون مطلباً شرعياً، والمسلم دائم التوكل على الله ﷻ ودائم التفاؤل؛ لأنه يحسن الظن بربه ﷻ كما كان رسول الله ﷺ في هجرته، فالمسلم يحرص على نشر جو التفاؤل في مجتمعه، حتى في أحلك الظروف وأشدها، ولا ينمي شعور الإحباط والتشاؤم.
- من الدروس المستفادة في الهجرة النبوية التوكل على الله عزّ وجل الذي وعد بالتوفيق والسداد لأصحاب النوايا الصادقة والأعمال الصالحة، ومنها نتعلم التخطيط السليم والاستعداد الصحيح ونتعلم من الهجرة النبوية أن بناء الوطن يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحتضنه، ورجال تفديه وتنصره، وتضحيات يؤثر بها الإنسان على نفسه، وإخلاص في الجهد والعمل لبناء أركانه.
وختامًا؛ هذه: خطبة عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية