هنا خطبة عن قيمة الاحترام. فهذا هو عنوان خطبة الجمعة القادمة التي سيتكفَّل الأئمَّة والخُطباء بإلقائها على منابر المساجد -إن شاء الله-. فاقتنص واغتنم محتواها وانشر فحواها.
أحضرناها وكتبناها وأعددناها لكُم، فهنا ملتقى الخطباء وصوت الدعاة الذي نجتمع وإياكُم من خلاله لنوفر أفضل ما جاء به الخُطباء على المنبر من حول الأرض، لنُحضِره لكم لتنفعوا عامة المسلمين به.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي وزَّع الأذواق بين الناس كما وزع بينهم الأرزاق وجعل الأخلاق الحسنة مبدأً لها وميثاق؛ أحمده سبحانه فهو الوهاب الرزاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها رحمة الخلاق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه ليتمم لنا مكارم الأخلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ الى يوم التلاق.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
الخطبة الأولى
أيها المسلمون؛ حديثنا اليوم عن قيمة الاحترام؛ ونبدأ فننُوِّه أن هناك كثيرٌ من الناس يعتبر أن مسألة الذوق والاحترام تخضع للطبائع والأعرف فقط، وأنه لا علاقة لها بالدين. والحقيقة أن الدين الإسلامي جاء مهذبًا للفِطر ومراعيًا للشعور ومنقحًا للأعراف مع اختلافها، لأن الله سبحانه وتعالى هو خالق النفس البشرية، وهو وحده سبحانه العالم بما يصلحها وما يفسدها؛ قال -تعالى- (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). وقد وضع لها ما يناسبها على مر العصور والأزمان.
إن مسألة الذوق تحتاج الى ضبط خشية أن تنتشر بانتشار الأفهام والأزمان.
ولما كانت رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة الخالدة، فقد راعت مسألة الذوق والاحترام وحثَّت عليها معتبرة أن الرقي بالذوق من معالم التطور الفكري والنضج الإسلامي. حيث جاء الإسلام للخروج بالإنسان من طور التقليد الاعمال للآباء، بداية من موروثاتهم العقدية (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)؛ مرورًا بعاداتهم اليومية وأخلاقهم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون).
وقد تعددت صور اهتمام الإسلام -بوصفه الدين الخاتم- بالذوق؛ وأخذ ذلك عدة أشكال، منها مراعاة الإسلام للذوق العام؛ وذلك بعدم اختراق النُظم العامة المعمول بها ما لم تتعارض مع شرع الله -تعالى-، وذلك كالاهتمام بتهذيب شهوة الطعام لدى المسلمين، وعدم النهم بما يُظهِر المسلم في وضع ينتقده عليه من يجالسه، لا سيما إن كانوا على غير الإسلام.
فعن المقدام بن معدي كرب -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه).
بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يهذب الصبية إذا ما وقعوا في ما يناقض الذوق والاحترام؛ كما في حديث عمر بن أبي سلمة -رضي الله عنه-، قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)؛ فما زالت تلك طعمتي بعد.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كف عنا جشاءك فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة).
وقد ورد في حكم التجشؤ أنه ليس محرما وإنما يعد فعله خلاف الأدب، لا سيما إن كان بحضرة الآخرين، حتى لا يتأذوا من الصوت والرائحة. ويتأكد استهجان هذا العمل إذا كان في بيئة تستهجنه وتسترذِل هذه من يتعمده أو يتساهل فيه.
ولذا، راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا لعدم إيذاء الآخرين ومراعاة للذوق معهم.
وما ينطبق على الطعام، ينطبق على المَلْبس، بألا يرتدي المسلم ما يخرِق به الذوق العام -ولو كان مباحا- كأن يرتدي ملابسه ألوانها منفرة أو لا تستر العورة، كالسراويل القصيرة التي فوق الركبة، خاصة إذا لبسها وحضر بها المساجد؛ كما قال تعالى (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
والزينة ما يتزين به الناس من الملبوس؛ وقد أُمِروا بالتزين عند حضورهم إلى المساجد للصلاة والطواف.
وقد استُدِل بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة الزينة.
ولا يخفى أيضًا أن ترك الزينة التي هي بمعنى ستر العورة يعد مخالفة شرعية، ناهيك عن لُبس ما يدعوا للتحزب والتفرق أو السخرية من الآخرين، أو غير ذلك مما نهى عنه الشرع وزجر.
وقد حرص الإسلام على حسن المظهر ولُبس أجود الثياب لا سيما البيض منها؛ فالثياب البيضاء تتفق مع الذوق العام مهما اختلفت طبائع الناس، ولا تترك في نفس الرَّائي إلا الصفاء والنقاء، ناهيك عما تُظهِره من جمال المنظر وحسن الطلعة.
وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم).
كما يُستحَب التطيب، فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (حُبب إلي من الدنيا، النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة).
كما حثَّ الإسلام على انتقاء ما يُسمَع ويشاهد، بل وما نُسمِعه غيرنا ونجعلهم يشاهدونه؛ محذرًا مما يخدش الذوق العام والإحترام، أو يجافي الحياء؛ كما قال تعالى (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا). وأن نلتزم بأدبيات السماع والمشاهدة بألا نفرِض ذوقنا على الآخرين إلا إذا رضوا هم.
وهم كما حث الإسلام على النداء بأحب الأسماء والالقاب والكُنى، لا سيما مع الزوجة والتبسط معها وتدليلها ومناداتها بما تحب. فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينادي عائشة -رضي الله عنها- بقوله يا عائِش.
بل إن الإسلام قد اعتبر اختيار الأسماء الحسنة حقًا للمولود. بل إن الإسلام قد حفظ نفسية الحيوان، بألا نفزعه أثناء الذبح، وفي هذا ما لا يخفى من الرقي والرحمة والذوق حتى مع غير الإنسان. فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَه، فليُرح ذبيحته).
ولأن رسالة الإسلام ليست جامدة فلم تقف عند مراعاة والذوق وترسيخ قيمة الاحترام في حدود الأمور المرئية والمسموعة وغيرها من المحسوسات فقط؛ بل تعدت ذلك للوجدان، ويظهر ذلك في أمورٍ، منها: ألا يحرج أحد غيره، ولا يسخر منه، كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون).
ومنها عدم مقاطعة الآخرين أثناء الحديث لأن ذلك ينافي الذوق والاحترام، ويوقِع الآخر في حرج. وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك في قوله (لا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا) ~ إسناده صحيح على شرط الشيخين.
والمقاطعة هنا بالهجر وأثناء الكلام أيضا، كما قرر العلماء.
بل إن جميع المنهيات المذكور في الحديث تجنبها يورِثُ التآلُف والتَّواد وينزع أسباب التباغض والشقاق.
ومن مراعاة الإسلام للذوق أيضا عدم الولوج مباشرة على الآخرين دونما استئذان، ولو على أهل بيته؛ لا سيما إن كان عائِدا من سفر؛ فقد ورد النهي للمسافر على أن يأتي أهله ليلا أو على حين غفلة منهم، وذلك لِئَلَّا يرى منهم مالا يسره، فيؤدي ذلك إلى النفرة منهم. فعن جابر -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره أن يأتي الرجل أهله طُرُوقًا. [أي المجيء في الليل]؛ وفي رواية: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم. أيُّ حَثِّ على قيمة الاحترام أكبر من هذا؟
وإذا كان هذا مع أهل بيته فمن سواهم أولى.
ولذا، شُرِع الاستئذان قبل الدخول صيانة للعورات، ففي الحديث (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)؛ ولعدم اقتحام البيوت، لأن في هذا انتهاكًا للذوق؛ قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون).
بل راعى الإسلام ما هو أبعد من ذلك، ففي حال الاستئذان للدخول ينبغي ألا يزعج صاحب البيت بالطرق على الباب، وارتفاع صوته بالنداء عليه، وغير ذلك مما يتنافى مع الذوق والإحترام؛ فشرع الاستئذان ثلاثا، وإلا فارجِع؛ فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع).
وعلى المُستأذِن ألا يستقبل الباب بوجهه، ولكن يمينا أو يسارا. فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر؛ ويقول: السلام عليكم.
وقد راعى ديننا الحنيف الآخر مهما كانت حالته، فقيرا أو غنيا، أو ضعفا أو قويا، عالما أو جاهلا، رجلٌ كان أو امرأة أو طفلا، مسلما كان أو غير مسلم، وأنزل كُلا منزلته، ووضع ضوابط عامة للتعامل بما يخدم الذوق العام ويحقق الاحترام والتكامل في المجتمع بعدم التعالي والازدراء وحسن الظن بالآخرين، معتبرا أن المعيار بين المسلمين مع بعضهم هو التقوى والعمل الصالح؛ ومع غير المسلمين هو عدم الضرر.
هذا مما سبق به الإسلام وباشرت سماحته وذوقه شِغاف القلوب، فأقبل عليه الناس من كل حدب وصوب، دينٌ رعى الإنسان كإنسان؛ فبعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، دينٌ يأمر بالعدل حتى مع غير المسلمين، بل مع غير الإنسان، دينٌ يدعو للرقي ويراعى الآخر ويحافظ على شعوره ويجرم التعدي عليه ولو بكلمةٍ أو همزةٍ أو لمزة، دينٌ يدعو إلى التفكير وحسن التدبير، دين يدعو إلى ترتيب الأفكار وتهذيب الطباع وإعلاء قيمة الاحترام؛ أنه دين الإسلام، دين الاحترام والذوق والرقي والحضارة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه؛ فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم رضوانه.
أما بعد؛ فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن تقواه خير زادٍ ليوم يقل فيه الزاد، إلا من تزوَّد بزاد التقوى.
ثم صلوا وسلموا على رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كما أمركم بذلكم الله، فقال جل في علاه (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وخُصّ مِنهم الخلفاء الراشدين، أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمان وعليّ؛ وآل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء
- اللهم أَعِز الإسلام وانصر المسلمين، وأذِل الشِّرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من الكفرة والمشركين والمنافقين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
- اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئِمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
- اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه؛ اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفقه لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.
- اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله؛ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه وآلائه يزدكم؛ ولذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تفاصيل الخطبة
- العنوان: خطبة عن الاحترام – قيمة الاحترام والذوق العام.
- للشيخ: أسامة حسين مشاط.
- فحواها: خطبة الجمعة هذه توضح كيف حَثَّ الإسلام على إعلاء وتوضيح قيمة الاحترام والمحافظة على والذوق العام.
- وصف المحتوى: خطبة مكتوبة ومُعنصَرة وموثَّقة بالأدلة من الكتاب والسنة.