مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، يسبح بحمده كل شيء وكان بعباده خبيرا بصيرا، أحمده على أفضاله كثيرا، وأشكره فمن شكره فاز فوزا كبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مكافئا ونظيرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، المبعوث بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في سبيل الله جهادا كبيرا، وعلى كل من سار على منهاجه إلى يوم العرض على الله فمحاسب يسيرا ومحاسب عسيرا.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷻ على كل حال، واعلموا أن الذين يخشون الله ويتقونه يسارعون إلى الخيرات وهم لها سابقون، قد وهبوا حياتهم كلها لله، فهم ما بين ذكر وصلاة، وصدقة ودعاء، ومبادرة إلى كل عمل صالح، قد صدق فيهم قول الحق ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
أيها المسلمون: إن من أجل القربات التي يسارع إليها المتقون قيام الليل، والتهجد بالصلاة في ساعاته، لما بلغهم من فضله العظيم، فالله ﷻ قد أثنى على الحريصين عليه بقوله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وقال ﷻ: ﴿كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
وقال ﷻ في وصف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾، وأثنى ﷻ على المتهجد في الليل بقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾، رفع ﷻ في هذه الآية قدر من يقوم الليل فجعله من أهل العلم، وبين أن علمه أورثه الخوف من عدم الأمن في الآخرة، وحبب إلى قلبه الرجاء في رحمة ربه، حتى حرص على القرب من الله بقيام الليل.
وفي الحديث عن النبي: «ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها»، وجاء عنه: «أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
أمة الإسلام: كم لهذه العبادة الجليلة من فوائد وعوائد على القائم بها، والحريص عليها، وقد نبه نبينا على بعض تلكم الفوائد في قوله: «عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله ﷻ، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد»، فهنا يبين أن قيام الليل مع كونه قربة من القربات التي ترضي رب الأرض والسماوات فإن فيه تأسيا واقتداء بعباد الله الصالحين من الأنبياء والرسل، يقول الحق ﷻ: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، ويقول: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾.
وبين نبينا في حديثه هذا أن قيام الليل مع كونه تأسيا بالصلحاء فهو قربة من القربات العالية التي يتقرب بها صاحبها إلى رب العالمين، ومن بركاته أنه يحجز صاحبه عن الوقوع في المحارم، والخوض في المآثم، ومن عوائده أنه مكفر من مكفرات الذنوب، ومن فوائده أنه يعود على صاحبه بالصحة الجسدية والنفسية والعقلية، وهنالك دراسات علمية تؤكد أهمية القيام من النوم ليلا من الناحية الصحية، فكيف إذا كان قياما لأجل أداء صلاة التهجد في الليل!
أيها المؤمنون: إن التهجد في الليل وصية الله ﷻ لرسوله محمد: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾، وقال ﷻ في أوائل ما أنزل على نبيه من الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾.
روى الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد قال: أخبرني عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه بات عند ميمونة زوج رسول الله وهي خالته، قال: فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله وأهله في طولها، فنام رسول الله، حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل فاستيقظ، وجعل يمسح النوم بيده عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ﴾، إلى آخر السورة، ثم قام إلى شن معلق -وهو القربة البالية- فتوضأ منه فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي، قال: فقمت وصنعت مثلما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني يفتلها، ثم صلى اثنتي عشرة ركعة، ثم أوتر، ثم اضطجع، حتى جاء المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح. ثم قال لي ابن عباس: كذلك فافعل يا جابر.
وكذلك فافعلوا يا عباد الله اقتداء منكم برسول الله ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
⇐ هذه أيضًا خطبة للخطباء المميزين؛ بعنوان: الأمل النافع – مكتوبة كاملة
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرف العابدين بالقيام، وجعله من القربات العظام، أحمده وهو المنعم الكريم، وأشكره على نعمائه وفضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرؤوف الرحيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، النبي الطاهر الصادق القوي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: ما أجل هذه العبادة التي تكون بين العبد وربه ﷻ، فإنها لا يطلع عليها الناس، فهي إلى الإخلاص أقرب، ومن الرياء أبعد، وأثرها المبارك على القلب والجوارح لا يستهان به، فليكن لك منها يا عبد الله أوفر الحظ والنصيب، واجعلها ذخيرة تذخرها لذلك اليوم العظيم، الذي يغبن فيه المقصرون، ويغبط فيه العاملون، ويتمايز فيه عباد الله، فمن بين مستهتر بالاستعداد لذلك اليوم هازئ بما ينتظره فيه والعياذ بالله، ومن بين حريص على التزود له بأحسن الزاد، وبما استطاع من الأعمال الصالحة، ألا إنها التجارة الرابحة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ويقول رب العالمين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، واحرصوا على القيام بهذه العبادة الجليلة الشريفة، وحثوا أهاليكم وأولادكم عليها، ففي الحديث عن النبي: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل وصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.